تشجير النقب… سلاح ناعم للترحيل
عبير بشير – أساس ميديا
تبدو عمليات التشجير حدثاً طبيعياً، لكنّ ما حدث في النقب شيء مختلف تماماً، وكاد أن يُسقط الخلطة السرّيّة لحكومة نفتالي بينيت، بعد تهديد منصور عباس بالانسحاب من الحكومة. فقد بدأ الصندوق القومي اليهودي (كاكال)، وهو هيئة شبه حكومية تشرف على 13 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية، أعمال غرس أشجار في أرض متنازع عليها في النقب، فكان ردّ أهالي النقب قويّاً، وتصاعدت الاحتجاجات وتطوّرت إلى اشتباكات ورشق عناصر أمن الاحتلال في النقب والمستوطنين بالحجارة والزجاجات الحارقة، بحيث تمّ توصيف هذا الردّ بأنّه ليس سوى النسخة الجنوبية لهبّة حيّ الشيخ جرّاح، لأنّ ما جرى هناك وفي النقب ليس سوى ردّ فعل الشعب الفلسطيني على مخطّطات المشروع الصهيوني المستمرّة، والقائمة على الاقتلاع والترحيل والاحتلال.
ديفيد بن غوريون قال يوماً إنّ “النقب هو الاستيطان المُدَّخر لإسكان ملايين يهود العالم”. لذلك قرَّر بن غوريون أن يبني أوّل مستوطنة في النقب على أنقاض قرية فلسطينية زراعية، وأن يسكن فيها، وأن يُطلق عليها “سديه بوكر”، وأن يُدفن فيها أيضاً.
يعيش الآلاف من أهالي النقب في بلدات لا تعترف بها السلطات الإسرائيلية. وقد وصف زعماء النقب أعمال التشجير بأنّها بداية محاولة ترحيل أولئك الذين يعيشون في القرى غير المعترف بها، والاستيلاء على الأراضي المتنازع عليها. وتضرب مشاريع التشجير على وتر تاريخيّ حسّاس وأكثر عمقاً. فبعد النكبة قام “كاكال” بغرس أشجار على أنقاض القرى والمدن الفلسطينية المهجّرة في محاولة لطمس ذكراها.
وواصل أحفاد بن غوريون مسيرته الاستيطانية، في صورة جمعيّات، وعلى رأسها جمعيّة ريغافيم. وهي تحظى بدعم حكومي كامل. ومن أبرز أهدافها: “محاربة “غزو” البدو للنقب، واستعادة أرض إسرائيل، قطعة وراء قطعة”.
ويبقى النقب هدفاً نهائيّاً للمشروع الصهيوني، والاستهداف هنا له الطابع “القومي الشامل”، بمعنى أنّ انعكاساته وأبعاده أكبر بكثير من الحيّز الجغرافي. وحين نقول صحراء النقب، فنحن نتحدّث عن قضاء بئر السبع، أو عن الجنوب الفلسطيني، لأنّ إسرائيل، وقبلها الانتداب البريطاني، كانا يستخدمان هذا اللفظ بهدف الإيحاء بأنّ الحديث يتمّ عن منطقة صحراوية مقفرة، وذلك لتغييب ما قامت به إسرائيل من اقتلاع وتهجير عشرات الآلاف من سكان هذا القضاء.
ويهدف المشروع الصهيوني في النقب إلى حشر الفلسطينيين في “تجمّعات” يمكن السيطرة عليها بحيث لا تصل المساحة المتاحة لهم في النهاية إلى أكثر من 1% من كامل مساحة قضاء بئر السبع الذي تبلغ مساحته حوالى 52% من فلسطين التاريخية وفق قانون برافر، في حين أنّ عدد سكان النقب ثلاثمئة ألف نسمة، يسكنون في سبع مدن، وإحدى عشرة قرية. وهناك خمس وثلاثون قرية غير معترف بها، ويُطالب بدو النقب بملكيّة سبعمئة وخمسين ألف دونم أمام المحاكم الإسرائيلية.
ترى إسرائيل أنّ بالإمكان تمرير مخطّط برافر بعدما أقرّت الشروع في إنشاء مشاريع مباشرة عبر بوابة “التنمية والسياحة والمشاريع الصناعية التكنولوجية” والتشجير والمناطق البيئية. وهذا نوع من الترحيل الناعم، إلى جانب إعلان مناطق في النقب مناطق عسكرية مغلقة تُستخدَم فيها الذخيرة الحيّة للتدريب العسكري، وتبنى مستودعات لتخزين أسلحة، ومصانع كيمياوية، ولا تنسوا مفاعل ديمونا النووي.
قال جدعون ليفي من صحيفة هآرتس: “الآن تمّ إخراج السلاح الصدئ للصهيونية الذي كان مخبّأ منذ العام 1948، وهو التشجير. شخص بريء جدّاً جاء يبكي، يريد تغطية الصحراء بالخضرة، وهذا أمر بيئي. في طفولتنا أخذونا الى حديقة مئير من أجل غرس الأشجار. كان هذا أمراً مؤثّراً. لم نكن نعرف أنّه بأموال الصندوق الأزرق يقومون بتغطية البلاد بأشجار الصنوبر الكبيرة، من أجل تغطية جرائم 1948 وتغطية الخرائب الصامتة، ومن أجل أن لا يعود أيّ فلسطيني إلى بيته الذي تحوّل إلى غابة”.
ليست جديدةً المواجهات المتّصلة بالتشجير في النقب، لكن للمرّة الأولى يحدث هذا الأمر فيما يوجد حزب عربي وعضو رئيسي في الائتلاف. وكان عضو الكنيست منصور عباس قد حذّر من أنّ قضية التشجير بصورة محدّدة يمكن أن تُسقط الائتلاف الحاكم. وكما هو معلوم، فنحو 40 في المئة من أصوات “راعم” في الانتخابات الأخيرة جاءت من بدو النقب، والأمر الأخير الذي يريد فعله منصور عباس هو أن يجعل ناخبيه يشعرون بأنّه تركهم. في الوقت نفسه، فإنّ حزب القائمة الموحّدة بحاجة ماسّة إلى المزيد من الإنجازات الملموسة لتقديمها لقاعدة ناخبيه، وخاصة في النقب. وكان منصور عباس قد وعد بأنّه بوجود حزب عربي في الائتلاف، سيتمّ الاعتراف بالمزيد من البلدات البدوية غير القانونية. لكن حتى الآن، وبينما تمكّن عباس من جلب مليارات الشواقل من التمويل إلى الوسط العربي، فقد تراجعت في سلّم الأولويات قضايا “الصورة الكبيرة” المتعلّقة بالأرض والاعتراف بالقرى.
صحيح أنّ هبّة النقب جرى تطويقها، بالإعلان عن وقف التشجير مؤقّتاً، لكنّ احتجاجات النقب عكست اندماجاً خطيراً بين أزمة سياسية شديدة وصبّ النار على الزيت من قبل اليمين المتطرّف، الذي حوَّل ما جرى في النقب إلى معركة مصيرية وحاسمة، وطالب بردّ قاسٍ وبمواصلة التشجير وإبداء الحزم تجاه البدو. وقد دعا القائد الأسبق للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال إلى ما سمّاه “حرب تحرير النقب”، وقال إنّه “سيتمّ العمل على تكرار عملية “يوآف” لتحرير النقب”، قاصداً بذلك عملية احتلال النقب من قبل العصابات الصهيونية خلال نكبة عام 1948. وكان بالإمكان رؤية بصمات نتانياهو على أحداث النقب الأخيرة، وهو الذي يسعى إلى “صفقة ادّعاء مع النيابة العامة الإسرائيلية، يعترف بموجبها بمخالفات تتضمّن الاحتيال وخيانة الأمانة، ويقبل أن يُوصَم بالعار، ويُعاقَب بالابتعاد عن العمل السياسي لمدّة سبع سنوات، مقابل تخفيف لائحة الاتّهام ضدّه وعدم دخوله السجن وإغلاق الملفّات الجنائية ضدّه”، وذلك عندما سارع إلى النقب عضو الكنيست إيتمار بن غبير، الذي يُعتبر مقاول نتانياهو التنفيذي، وهو يحمل بيد عود ثقاب مشتعلاً، وبيد أخرى الأشتال في صندوق سيارته، على اعتبار أنّه نشاط طبيعي وصهيوني لا مثيل له. فغرس الأشجار هو عادة صهيونية من أجل التغطية على الجرائم. فذات يوم أحضرت إسرائيل جميع السفراء من أجل غرس “غابة السفراء” في النقب بدون أن يبلغوهم بأنّ الهدف الوحيد للغابة الوهمية هو التغطية على قرية العراقيب البائسة التي تمّ هدمها 183 مرّة.
ومن المعروف أنّ بن غبير يؤدّي لنتانياهو خدمات سياسية من شأنها وضع جهاز تنفّس سياسي له. هذا ما حدث عندما كان يائير لبيد على بعد خطوة من تشكيل الحكومة، فافتتح بن غبير مكتباً في حيّ الشيخ جرّاح، وحرّض وأجّج النفوس في باب العمود في رمضان، إلى أن امتدّت الاحتجاجات إلى المدن المختلطة، وصولاً إلى معركة سيف القدس.