الهيئات الاقتصادية: صفقة على حساب العمال
في الأيام القليلة الماضية، استدعت هيئات أصحاب العمل، بقيادة الوزير السابق محمد شقير، مجموعة مديرين عامين بارزين لمناقشتهم أو لفرض تسوية معهم حول مسائل تخصّ ما يفترض أن يترتب عليهم من أعباء في سياق عملية تصحيح الأجور، أو ما يفترض أن يصيب أعمال أصحاب العمل من الزيادات الضريبية المطروحة في الموازنة وأبرزها الدولار الجمركي. لكن قبل كل هذه الاجتماعات، قامت الهيئات بزيارة أساسية واستحصلت على بركة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ثم انطلقت نحو وزير المال يوسف الخليل. بعدها استدعى شقير إلى مكتبه في مقرّ غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، كلّاً من: المدير العام للضمان الاجتماعي محمد كركي، مجموعة مديرين في وزارة المال على رأسهم المدير العام بالإنابة جورج معراوي، المدير العام للجمارك بالإنابة ريمون خوري، مدير الواردات لؤي الحاج شحادة، ولاحقاً استُدعي رئيس مجلس الإدارة المدير العام لأوجيرو عماد كريدية.
في الشكل، كان لافتاً أن شقير يطلب فيّلبى سريعاً من موظفين في القطاع العام يشغلون مواقع تصنّف ضمن الوظائف العليا للدولة. كلّهم أتوا إلى مكتبه لمناقشة مطالبه ومطالب بقية أعضاء الهيئات مثل جاك صراف ونقولا الشماس وزياد بكداش. هنا، لا بد من الإشارة إلى أن الشماس المشهور بـ«أبو رخوصة» هو الذي قال يوماً إن الهيئات تطاع ولا تطيع. وهو التاجر – المصرفي الذي يمثّل إساءة الأمانة التي مارستها المصارف تجاه مودعيها، كما يمثّل الأرباح الاحتكارية التي يمارسها أصحاب الوكالات الحصرية. وإلى جانبه شقير، الممنوع من ممارسة أي عمل تنفيذي في مصنع والده للشوكولا، لكنهم يوجّهون الأوامر بواسطة عين التينة نزولاً إلى أزلامها، فيُطاعون!
في هذا الإطار، طلبت الهيئات من كركي أن يجد المخرج القانوني ويوافق على المقايضة بين موافقة الهيئات على زيادة الأجور في القطاع الخاص بقيمة 1,325,000 مقابل اعتبار الزيادات على أجور العاملين في القطاع الخاص عن عامي 2020 و2021 مساعدة اجتماعية سنوية لا تسجّل في الضمان ولا تُدفع عنها اشتراكات، ولا تحتسب ضمن تعويضات نهاية الخدمة، بل هي مساعدة منحها أصحاب العمل لموظفيهم. وتبرّر الهيئات هذا الأمر بأن الضمان الاجتماعي دفع لمستخدميه مساعدة اجتماعية لم تدخل في أصل الراتب ولا في تعويضات نهاية الخدمة. ويطلب أصحاب العمل أن يتم تشريعها كمساعدة، تماماً كما شرّعها رئيس التفتيش السابق في الضمان غازي قانصو.
يتغافل أصحاب العمل، ومعهم مسؤولو الضمان، بأن ما يصنّف أجراً وفق التفسيرات القضائية لقانون العمل وقانون الضمان الاجتماعي، هو بحسب القرار 143 الصادر عن محكمة التمييز ــــ الغرفة الثامنة مدنية في 17/9/1997، على النحو الآتي: «اعتبار التعويضات والعائدات النقدية والعينية التي تتّسم بطابع العمومية، والاستمرارية، والثبات، هي التي يجب إضافتها إلى الأجر الأساسي لحساب تعويضات نهاية الخدمة وما يرافقها من تعويضات منصوص عليها قانوناً». بمعنى آخر، لا يمكن اعتبار ما دفعه أصحاب العمل لأجرائهم بشكل متكرّر وثابت وشهري بوصفه مساعدة اجتماعية، بل هي أجر يفترض أن يحتسب ضمن تعويضات نهاية الخدمة وتدفع عنه الاشتراكات.
لكن المقايضة التي يقترحها أصحاب الرساميل لا تقتصر على ذلك، بل يقدّمون إغراءات بأنهم مستعدون لزيادة معدل الاشتراكات في الضمان ورفع الكسب الخاضع للاشتراكات، بما يكفي لتغذية الضمان ببضعة مئات من المليارات، وعندها يصبح بإمكان الضمان زيادة التعرفات لتقديمات المرض والأمومة ثلاثة أضعاف. كذلك سيحصل الضمان على وعد بأن أصحاب العمل مستعدون للمساهمة في إنعاش ضمان الشيخوخة!
على حساب إفلاس الضمان
هذه المقايضة، رغم أنها تبدو سخية من قبل أصحاب العمل، إلا أنها بالفعل ليست شيئاً يُذكر. ففي المبدأ، ضمان المرض والأمومة ما زال عاجزاً بشكل بنيوي، وتغذيته تتم حالياً بشكل غير شرعي من صندوق تعويضات نهاية الخدمة الذي يختوي أكثر من 11 ألف مليار ليرة. هذا المبلغ لو استخدم كلّه في تمويل المرض والأمومة، لن يكفي أكثر من بضعة أشهر لتغطية الاستشفاء وفواتير الدواء والطبابة للمضمونين والمستفيدين على عاتقهم. نفقات ضمان المرض والأمومة كانت تتجاوز 600 مليون دولار، بينما الـ11 ألف مليار ليرة لا تساوي أكثر من 1500 مليار ليرة بقيمة أسعار اليوم تبعاً لمعدل تضخّم الأسعار، أما إذا احتسبت على أساس سعر الدولار السوقي فهي لا تشتري أكثر من 360 مليون دولار.
بهذا المعنى، الضمان مفلس ولا يستطيع الاستمرار حتى في ظل حلول من نوع زيادة الاشتراكات بضع نقاط إضافية، أو رفع الحد الأقصى للكسب الخاضع للاشتراكات… بضع مئات من المليارات لن تقدّم أو تؤخر في حسابات الكلفة الفعلية للتغطية الاستشفائية وفواتير الطبابة والدواء وفحوصات المختبر وسواها.
والنقطة الأهم، أن المقايضة بين ضمان الشيخوخة مقابل تسويات نهاية الخدمة هي الوهم بحدّ ذاته. فلو أخذت مسألة إقرار ضمان الشيخوخة بجديّة من قبل قوى السلطة وأصحاب الرساميل، باعتبار اتفاق على معدلات الاشتراك للتمويل، فإن هذه الكلفة ستكون رخيصة جداً على أصحاب العمل مقابل التسويات. فأي إقرار لضمان الشيخوخة الذي ينقل الأجراء إجبارياً من تعويض نهاية الخدمة إلى صندوق المعاش التقاعدي يكون قد ألغى فعلياً كل تسويات نهاية الخدمة مقابل معاش تقاعدي شهري لم يتفق عليه مسبقاً ويتوقع ألا يتجاوز الحدّ الأدنى للأجور الذي يتحكّم أصحاب العمل بإصداره من خلال شراكتهم مع قوى السلطة. مقايضة كهذه هي مقتل للعمال أكثر من المقتل الذي أصابهم بإفلاس الضمان.
يبدو أن وزير العمل مصطفى بيرم لم يوافق بعد على هذه الصفقة، لا بل يتمهّل كثيراً في دراستها مع أنه في موقع لا يختلف كثيراً عن مواقع قوى السلطة الأخرى، وقد يتشارك معها الأهداف السياسية نفسها. شقير اتصل مباشرة بالوزير طالباً منه حضور إعلان الصفقة و«قطفها»، لكن الوزير لم يمتثل لاستدعاءات شقير التي كانت ناجحة مع المديرين العامين.
شقير في مواجهة مديري المالية
الأكثر نفوراً في المشهد، أن مجموعة من المديرين العامين من الفئة الأولى والثانية في وزارة المال، هرعوا إلى مكتب شقير لمناقشته في مسألة أساسية: الدولار الجمركي. الوزير السابق أبلغهم بأن أصحاب العمل مستعدون للموافقة على دولار جمركي بقيمة 8 آلاف ليرة، بينما مديرو المالية والجمارك مصرّون على أن لا جدوى من هذا الأمر إذا كان الهدف من زيادة الدولار الجمركي تمويل زيادة الرواتب والأجور وبعض النفقات الإضافية في الموازنة. الدولار الجمركي بمستوى 8 آلاف ليرة، أي تبعاً لسعر صرف الدولار المصرفي وفق تسعيرة مصرف لبنان الصادرة بالتعميم 151، لا يحصّل واردات أكثر من 6 آلاف مليار ليرة، وهو مبلغ متواضع قياساً على حاجات الموازنة الأخرى، لذا يتمسكون بزيادة الدولار الجمركي إلى سعر منصّة صيرفة وما فوق. عملياً، يدرك أصحاب العمل أن إعادة تسعير الدولار الجمركي بمعدلات مرتفعة هو بمثابة ضريبة عالية ستضرب الاستهلاك أكثر مما ضُرب، وبالتالي فإن استمرارية المؤسسات ستكون مهدّدة وإن كانت قادرة على تخزين السلع لحماية رساميلها آنياً. لكن الاستهلاك هو أساس استمرارية العمليات التجارية. وهذا الأمر محور نقاش في وزارة المال أيضاً، إذ إن زيادة الدولار الجمركي يجب أن تأخذ في الاعتبار أن إيراداته تكون أقلّ من المتوقع كلما كان هو أعلى.
نهاية مشروع «الفايبر أوبتيك»؟
كذلك حضر إلى مكتب شقير، المدير العام لأوجيرو عماد كريدية. طلب من الرجل تقديم شرح وافٍ عن قطاع الاتصالات، فأشار إلى أن المسألة الأساسية تتعلق بغياب الإنفاق الاستثماري الذي دفع أوجيرو إلى وقف تنفيذ عقود مشروع تمديد «الفايبر أوبتيك»، بسبب عدم استمرارية التمويل بعد ارتفاع سعر الدولار مقارنة مع الأسعار المقدمة سابقاً بالليرة. لذا فإن كريدية مضطر أن يعيد تقييم هذا المشروع في موازنة 2022، لافتاً إلى أن القطاع بكامله لا يمكنه الاستمرار بلا إنفاق استثماري بالحدّ الأدنى لجهة الصيانة وبعض التطوير. لكن المشكلة تنسحب على أمر آخر يكمن في تسديد كلفة استجرار الإنترنت إلى الخارج للحفاظ على ربط لبنان. هنا تكمن المشكلة في زيادة التعرفات؛ يمكن رفع الأسعار بتغطية بعض الارتفاعات في سعر صرف الدولار، ويمكن رفع التسعيرة بناء على الكلفة وسعر الصرف، لكن الأمر يحتاج إلى قرار في مجلس الوزراء، أو يتطلب دعماً من الخزينة لتغطية كلفة التشغيل المشار إليها في موازنة 2022.
في هذا المجال، كان شقير مستمعاً أكثر ومتلذذاً بما تريده أوجيرو من رفع التعرفات على المستهلكين لتغطية استمرارية ما للقطاع من دون مدّ يد أوجيرو إلى جيوب أصحاب العمل. فأي تعرفة سيتم رفعها، ستزاد تلقائياً على أسعار السلع المبيعة في السوق المحلية أو المصدرة إلى الخارج.