موجة احتجاجات في الشمال: التتريك لا يروّض السوريّين
الأخبار- محمود عبد اللطيف
تُقسَم المناطق التي تحتلّها تركيا من الشمال السوري إلى ثلاث مناطق أساسية، تُعرَف بأسماء العمليات العسكرية التي سيطرت من خلالها أنقرة على هذه المناطق؛ فـ«درع الفرات» هي المنطقة الواقعة في ريف حلب الشمالي الشرقي وعاصمتها جرابلس، و«غصن الزيتون» هي المنطقة الواقعة في ريف حلب الشمالي الغربي وعاصمتها عفرين، بينما المنطقة الممتدّة بين مدينتَي رأس العين وتل أبيض من ريف محافظتَي الحسكة والرقة تُعرَف باسم «نبع السلام». ويتمّ التعامل مع هذه التقسيمات على أنها «ولايات الأمر الواقع»، وكلّ منها ملحَق إدارياً بـ«الولاية التركية» الأقرب إليه من حيث الجغرافيا.
وبحسب مصادر مطّلعة تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن «إدارة العمليات التركية في الداخل السوري تتمّ من القواعد التركية في هذه المدينة، على الرغم من وجود قواعد كبرى أخرى مثل قاعدة جبل عقيل المشرفة على مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، ومجموعة من القواعد الأخرى في عفرين والمناطق التابعة لها. كما أن إدارة فصيل الجيش الوطني، المُشكّل أساساً بقرار تركي، تتمّ من هذه المدينة». وتلفت المصادر إلى أن «الثقل الأساسي للأتراك وانعكاس سياساتهم يظهر في جرابلس أكثر من غيرها، لكون المدينة تضمّ مجموعة كبيرة من المؤسّسات التي تعتمد اللغة التركية إلى جانب العربية في لوحات الإشارة إليها، كما أن مؤسسات الائتلاف نفسها ترفع العلم التركي وصورتَي كمال أتاتورك ورجب طيب إردوغان على أبوابها وفي أروقتها».
وتقوم سياسات أنقرة في هذه المنطقة على «التتريك الكامل»، والذي «بدأ منذ شهر آب من عام 2016، تاريخ سيطرة القوات التركية على جرابلس»، وفق ما تُذكّر به مصادر معارضة للاحتلال التركي في تصريح إلى «الأخبار»، مضيفة أن «هذه السياسة تحظى بقبول وانصياع تامَّين من الائتلاف المعارض وحكومته المؤقّتة». وتُبيّن المصادر أن «المناهج التعليمية التي تدرَّس في هذه المناطق، وعلى الرغم من كونها موضوعة من قِبَل مؤسّسات الائتلاف، إلّا أنها تَعتمد المنظور التركي، كما عملت الحكومة التركية على نشر الثانويات الشرعية القريبة بمناهجها من مدارس إمام خطيب التركية، والتي تُعدّ امتداداً للمدارس العثمانية التي تُخرّج خطباء وموظفي الأوقاف». وتكشف أن «المخابرات التركية فتحت أخيراً تحقيقاً لم ينته بعد في أسباب وجود ما يمجّد الحكومة السورية، وهي أخطاء نتجت من النسخ غير المدقّق للمناهج من قِبَل مؤسّسات الائتلاف المعارض في بعض المواد».
الحياة بالليرة التركية
القوانين التركية المفروضة على السوريين توجب دفع مبلغ 800 دولار على النشاط التجاري نصف السنوي، ومبلغ 1600دولار على النشاط السنوي، وهو رسم يجب تسديده لغرفة الصناعة والتجارة التابعة لـ«الائتلاف». كما أن التعاملات التجارية، أيّاً كان حجمها، تتمّ بالليرة التركية، وهذا ما تسبّب بموجات تضخّم نتيجة تذبذب سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأميركي. وينعكس رهْن اقتصاد هذه المنطقة بالسياسات التركية، سلباً على السكّان الذين يعانون أساساً من سوء الخدمات وتدنّي قيمة أجورهم من المهن الخاصة، إذا ما قرّروا صرفها بالليرة التركية ليتمكّنوا من شراء ما يلزمهم من مواد أساسية.
ويُعدّ الخبز والكهرباء من الملفّات التي أثبت «الائتلاف»، ومِن خَلفه تركيا، فشلاً كبيراً في إدارتها؛ فعلى الرغم من طرح المعارضة نفسها على أنها «البديل الأمثل» للحكومة السورية، ووصفْها المناطق التي تنشط فيها بـ«الشمال المُحرَّر»، فقد فشلت في تقديم الخدمات الأساسية، والتي يَحضر الخبز على رأس قائمتها، إذ تصف مصادر محلية نوعية الخبز المنتَج بـ«السيئة والمرتفعة السعر»، فثمن ربطة تحتوي على نصف كيلو من الخبز يبلغ 5 ليرات تركية (ما يعادل 1300 ليرة سورية)، وهو سعر يساوي عشرة أضعاف سعر ربطة الخبز في المناطق الحكومية. أمّا في ملفّ الطاقة الكهربائية، فقد منحت الحكومة التركية شركة «AK Energy» حق استثمار السوق السورية للكهرباء منذ عام 2018، لتقوم الشركة بالسطْو على الشبكة الحكومية، وتبدأ بنقل الطاقة من الأراضي التركية وبيعها للسوريين في الشمال بالليرة التركية، قبل أن ترفع سعر الكيلوواط الواحد إلى ليرة تركية (260 ليرة سورية)، في حين أن السعر الحكومي بعد الرفع يبدأ من 2 ليرة سورية فقط، وأعلى شرائحه لا يزيد عن 150 ليرة. ونتيجة للاحتجاجات التي تشهدها مناطق أعزاز والباب وجرابلس ضدّ قرار الرفع الذي برّرته الشركة بتبدُّل سعر صرف الليرة التركية، تقول مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، إن «الشركة التركية عمدت إلى تسليح موظفيها وعناصرها خوفاً من اقتحام مقارّها والمباني التي استولت عليها بموافقة من الائتلاف المعارض»، مشيرة إلى أن «التظاهر ضدّ الكهرباء بات ملفّاً يشغل الاستخبارات التركية التي تَعتبر أن ثمّة من يؤجّج هذه التظاهرات ويدفع لخروجها بشكل مأجور».
تتريك الاقتصاد شمل، أيضاً، تسعير 47 مادة أساسية في الأسواق بالليرة التركية، ومنْع المدنيين من التعامل بغيرها، ما أدى إلى انخفاض قيمة المدّخرات الشخصية للسكان، إضافة إلى تدنّي مستوى أجور العاملين في المهن الحرّة. فعامل البناء، مثلاً، يتقاضى أجراً يُراوح بين 5-7 آلاف ليرة سورية يومياً، وبطبيعة تذبذب سعر الصرف، فإن أجره اليومي يصل إلى 15 ليرة تركية في أحسن الأحوال، وهي قيمة ما تستهلكه عائلة متوسّطة من الخبز لوحده يومياً. وتَلفت مصادر محلية، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «تحسين الأوضاع المعيشية أو تقديم المساعدات بالقدر الكافي للقاطنين في المخيمات، يُعدّ من الضرورات التي يخشى المواطنون المطالبة بها خشية من الاعتقال من قِبَل الجيش الوطني أو أحد فصائله، الأمر الذي قد ينتهي بتوجيه تهمة موالاة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو التجسّس لمصلحتها، وبالتالي التحويل إلى المخابرات التركية في جرابلس أو عفرين، وقد يكون هذا مصير كلّ مَن يعترض على قرارات تَصدر عن قيادي في أحد الفصائل الموالية لتركيا وليس عن الائتلاف أو حكومته المؤقّتة».
نصف جنسية
منذ أن سيطرت القوات التركية على مدينة عفرين في آذار من عام 2018، ومن ثمّ على مناطق تل أبيض والرقة في تشرين الثاني من العام التالي، وهي تقوم بعملية تغيير ديموغرافي في مناطق الحدود بهدف تحقيق «الأمن القومي التركي»، من خلال إبعاد الكرد عن المناطق التي يعيشون فيها، واستبدال سكّان جدد بهم من عوائل عناصر الفصائل المرتبطة بأنقرة، أو من النازحين الذين تقطّعت بهم السبل وعلقوا في هذه المناطق خلال محاولتهم الوصول إلى الأراضي التركية، كنقطة أولى في الطريق إلى أوروبا. لكنّ مصادر «الأخبار» تكشف أن المخابرات التركية، ومن خلال «الجيش الوطني»، «تمنع على السوريين استخدام البطاقة الشخصية السورية، إذ ألزمت السكان باستخراج بطاقات تعريف تعتمد اللغتين العربية والتركية في آن معاً، وهي بطاقات تصدر عن المجلس المحلي الذي يقطن المواطن في نطاقه الجغرافي». وبحسب المصادر نفسها، فإن «إبراز البطاقة الشخصية الصادرة عن الحكومة السورية من قِبَل أيّ مواطن، يعرّضه للاعتقال، خاصة حين مروره بالحواجز التابعة للقوات التركية أو الفصائل الموالية لها، إذ يُشتبه في مَن لا يحملون بطاقة التعريف بأنهم من الداخلين الجدد إلى المنطقة، وبالتالي فهم إمّا عملاء أو يحاولون الدخول بطريقة غير شرعية إلى تركيا، وفي كلتا الحالتين يتمّ اعتقال الشخص لفترة غير محدّدة، إلّا في حال ثَبُت أنه من سكّان المنطقة بشهادة اثنين أو أكثر من هؤلاء، وقد يكون حضور والده إلزامياً لفكّ احتباسه، وهذه السياسة متّبعة في مناطق شمال شرق حلب (جرابلس وما حولها)، منذ تشرين الأول من عام 2016». على أن استخراج «بطاقة التعريف» لا يكفي السوري للتجوال في تركيا؛ فهي بطاقة غير رسمية على رغم صدورها من جهة تركية، وعليه فإن المواطن يجب أن يحصل على «بطاقة حماية مؤقتة»، تُعرف باسم «كميلك»، وهذه تُستخرج على أساس «البطاقة الشخصية» الصادرة عن الحكومة أو أيّ ورقة ثبوتية ذات مصدر رسمي. وبالتالي، فإن السوري ضمن المناطق التي تحتلّها تركيا، يعيش بـ«نصف جنسية».