خطة الحكومة لإنقاذ المصارف: تجزئة المودعين لضربهم بالمفرّق
تستمر اللجنة الوزاريّة المكلّفة بإدارة التفاوض مع صندوق ببحث جميع الأفكار التي تسمح بردم فجوة ميزانيّات القطاع المصرفي، أي الفارق الشاسع بين التزامات القطاع للمودعين بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من دولارات بحوزة المصارف ومصرف لبنان. ولردم هذه الفجوة، تحتاج المصارف إلى التخلّص من كتلة ضخمة من الودائع المترتبة عليها كديون بالعملة الصعبة. وهو ما يتم العمل عليه حاليًّا، من خلال أفكار جديدة متنوّعة أشار إلى بعضها مؤخّرًا الكاتب الاقتصادي محمد زبيب.
ما يمكن استنتاجه من الطروحات الجديدة، يتلخّص في أنّ اللجنة تسعى إلى تطبيق مبدأ “فرّق تسد” للتعامل مع المودعين، بمعنى تجزئة الودائع إلى فئات متعدّدة يطالها الإجحاف بأشكال مختلفة، في محاولة للاستفراد بكل فئة والتخلّص منها على حدة. مع الإشارة إلى أن جميع هذه الطروحات المستجدّة مازالت قيد الدراسة، من ضمن المعادلات الحسابيّة التي تعمل عليها اللجنة. ما يعني أنّ اللجنة لم تحسم اتجاهها نحو اعتماد أي منها بشكل نهائي. وكالعادة، يبدو من الواضح أن جميع هذه الأفكار تذهب باتجاه تحميل الكلفة النهائيّة لعمليّة التصحيح المالي للمودعين وأصول الدولة.
عكس عمليّات التحويل من الليرة إلى الدولار
تبحث اللجنة في الوقت الحاضر فكرة تتبّع جميع عمليّات تحويل الودائع من الليرة اللبنانيّة إلى الدولار الأميركي، التي جرت خلال السنوات الثلاث الماضية، ومن ثم “عكس” هذه العمليّات، أي إعادة تحويل هذه الودائع من جديد إلى الليرة اللبنانيّة. كما تبحث اللجنة أيضًا إمكانيّة تتبّع الفوائد التي جرى دفعها بالعملة الأجنبيّة خلال السنوات الثمانية الماضية، وتحويل نصف هذه المدفوعات إلى الليرة اللبنانيّة. مع العلم أن اللجنة تدرس اعتماد سعر صرف يقارب 8,000 ليرة للدولار الأميركي لإجراء هذه العمليّات، ما يعني تكبيد المودع اقتصاص تقارب قيمته 70% من قيمة الوديعة دفعة واحدة. ومع إجراء هذه الخطوات، تراهن اللجنة على التخلّص من نسبة يمكن أن تصل لنصف قيمة الودائع الموجودة حاليًّا في القطاع المصرفي دفعة واحدة. وهو ما يعني تمكين المصارف من التعامل مع كتلة كبيرة من خسائرها، وتحميل هذه الخسائر للمودعين.
المصارف هي الفائز الأخير
بهذه الطريقة، ستستعيد المصارف جزءاً من الدولارات التي قامت بدفعها كفوائد بالعملة الأجنبيّة، كما ستستعيد الدولارات التي قامت ببيعها سابقًا للمودعين، الذين حاولوا الحفاظ على قيمة مدخراتهم وتعويضاتهم التقاعديّة عبر تحويلها للدولار الأميركي. وفي النتيجة، ستدفع المصارف هذه الالتزامات المترتبة عليها بالليرة بعد شطب 70% من قيمتها الحقيقيّة، من خلال سعر الصرف المجحف المعتمد لهذا النوع من العمليّات.
لكن في المقابل، لن تكون المصارف ملزمة بإعادة أي دولار للمودعين الذين قاموا بعمليّات معاكسة تمامًا: أي عبر تحويل الودائع من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانيّة قبل حصول الانهيار المالي. مع العلم أن المصارف قامت بحملات واسعة جدًّا في الأشهر التي سبقت الانهيار، عرضت من خلالها فوائد ضخمة للمودعين الذين يقومون بتحويل ودائعهم من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانيّة، مع تجميد هذه الودائع لفترات تتخطّى السنة الكاملة، وهو ما كبّد هؤلاء المودعين خسائر ضخمة بعد تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
ببساطة، ستستعيد المصارف الدولارات التي قامت ببيعها للمودعين الذين حوّلوا ودائعهم من الليرة إلى الدولار، من دون أن تعيد أي دولار للمودعين الذين حوّلوا ودائعهم من الدولار إلى الليرة اللبنانيّة، وهو ما يمثّل نقطة مجانيّة لإعادة تعويم ميزانيّات المصارف على حساب فئتي المودعين معًا! وفي النتيجة، سيخسر المودع الذي حوّل وديعته إلى الدولار الأميركي، رغم أنّه ضحّى قبل الانهيار بمعدلات الفائدة المرتفعة التي تم منحها للودائع بالليرة اللبنانيّة، كي لا يتحمّل مخاطر انهيار سعر صرف الليرة. وسيخسر المودع الذي حوّل وديعته لليرة اللبنانيّة قبل الانهيار، نتيجة إغراء معدلات الفائدة المرتفعة التي منحتها المصارف للودائع بالليرة اللبنانيّة. وفي الحالتين، ستكون المصارف هي الفائز الأخير.
في الوقت نفسه، ستستعيد المصارف نصف الدولارات التي دفعتها كفوائد للمودعين طوال السنوات الثمانية الماضية، مقابل دفعها بالليرة اللبنانيّة بأسعار صرف مجحفة، رغم أن المصارف استفادت من هذه الودائع عبر تسليف السيولة للمقترضين، الذين سددوا الفوائد بالدولار الأميركي قبل حصول الانهيار المالي. وبهذه الطريقة، ستكون المصارف قد استردّت كلفة الفائدة التي ترتّبت عليها للحصول على الودائع بالدولار الأميركي، من دون أن تخسر ما جنته قبل الانهيار من فوائد ناتجة عن استعمال هذه الودائع عبر أنشطة التسليف بالعملة الصعبة. وبذلك، ستكون الخطة قد وضعت مرّة جديدة معادلة تخلّص المصارف من أعبائها، على حساب المودع والمقترض معًا. وهنا، ستكون المصارف مرّة جديدة هي الفائز الأخير.
إنقاذ المصارف…على حساب المجتمع
بالإضافة إلى كل ما سبق، تعمل اللجنة على أدوات أخرى للتخلّص من سائر فئات المودعين، منها على سبيل المثال تحويل نحو 4 أو 5 مليار دولار من الودائع المصرفيّة إلى أسهم في المصارف، وفقًا لنموذج الـBail-In. مع العلم أن الخطّة الجديدة قلّصت نطاق هذا النوع من العمليات إلى حد كبير، مقارنة بخطة حكومة حسّان دياب، التي نصّت على شطب أسهم المصارف بشكل كلّي كأحد أبواب التعامل مع الخسائر، وفتح باب إعادة رسملة القطاع عبر الودائع العالقة في المصارف، من خلال تحويل هذه الودائع إلى أسهم في المصارف. وبذلك، يكون تقليص حجم عمليّات الـBail-In قد صبّ في مصلحة الحفاظ على رساميل أصحاب المصارف، وتجنيبهم تحمّل نسبة كبيرة من الخسائر.
كما يبدو أن ثمّة اتجاهاً إلى إبقاء “رأسمال سلبي” في ميزانيّة مصرف لبنان، تتراوح قيمته بين 7 و8 مليار دولار. وبلغة أبسط، تعني هذه الخطوة إبقاء جزء من فجوة الخسائر داخل ميزانيّات المصرف المركزي (على شكل فارق بين الالتزامات والموجودات بالعملة الصعبة)، من دون أن يتم التعامل معها بشكل جذري وواضح في المرحلة الراهنة، على أمل ترك معالجتها لسياسات وقرارات حاكم مصرف لبنان، على النحو الذي يجري حاليًّا. وبهذه الطريقة، سيتم تحميل هذا الجزء من الخسائر أيضًا للمودعين، من خلال التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان لتأمين السحوبات من الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وبأسعار صرف مجحفة. علمًا أن الخطة تنص على إبقاء نسبة من الودائع عالقة داخل المصارف، ليتم التعامل معها بآليّات شبيهة بآليّات السحب التي تنص عليها التعاميم رقم 151 و158.
العودة إلى “الصندوق السيادي”
أما أهم ما في الموضوع، فهو عودة اللجنة للبحث في الاستحواذ على الأصول العامّة، أو استثمارها وفقًا لآليّات الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وبذلك، تكون اللجنة قد عادت لفكرة “الصندوق السيادي”، أو “شركة استثمار الأصول العامّة”، التي تستهدف ضم أصول الدولة القابلة للاستثمار تحت مظلّة إداريّة واحدة، تمكّن المصارف من استخدام عائدات عمليّات الخصخصة أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص لسداد قيمة الودائع على المدى الطويل. وهكذا تكون الحكومة قد عادت إلى فكرة استخدام الأموال العامّة لإنقاذ القطاع المصرفي المفلس، وتحميل الخسائر المصرفيّة لأصول الدولة وإيراداتها المستقبليّة.
في الخلاصة، كل ما هو مطروح داخل اللجنة يدور في فلك تحميل المجتمع بأسره كلفة مرحلة التصحيح المالي، أو بالأحرى: كلفة الخسائر التي يحتاج القطاع المصرفي إلى التخلّص منها لاستعادة انتظامه. فكل ما يتمحور حول فكرة الاستحواذ على الأصول العامّة للتعامل مع الخسائر، سيعني تحميل كافّة اللبنانيين كلفة إعادة رسملة المصارف خلال الفترة المقبلة. وكل ما يتمحور حول استرداد الفوائد المدفوعة طوال السنوات الثماني الماضية، أو عكِس عمليّات تحويل الودائع إلى الدولار، سيعني تحميل هذه الكلفة للمودعين بمختلف فئاتهم. ولكل هذه الأسباب، ستكون فئة المساهمين داخل القطاع المصرفي المستفيد الأوّل من مندرجات الخطة الجديدة.