تحقيقات - ملفات

السودان.. سيناريوهات المشهد السياسي 2022

 

التعقيد الذي تشهده الثورة السودانية يمكن أن يؤدي إلى انسداد خطير. ومع توالي التمانع، تبتعد حظوظ التوافق بما يجعل التصعيد المتبادل هو سيد الموقف، تصعيد الثوار عبر المليونيات، وتصعيد الأجهزة الأمنية عبر مزيد من العنف المفرط، لا سيما مع الأخبار التي رشحت بها الصحف أخيراً من استعداد وتنسيق أكبر بين الأجهزة الأمنية لمواجهة التظاهرات الحاشدة المقبلة، وتصريحات مستشار قائد الجيش الطاهر أبو هاجة بأنه “لن يُسمح لأحد بجرّ البلاد إلى الفوضى”. هذان الخبران مؤشران خطيران إلى احتمال تصاعد قمع مفرط للتحركات الآتية.

ردود فعل العلاقة بين المشهد السياسي والأمني التي ترسل رسائل واضحة إلى المجتمعين الإقليمي والدولي للأسف بدت كثغرة أدرك العسكر إمكانية الاستفادة القصوى منها، فاتفاق “البرهان – حمدوك” الذي يمثل عرضاً يدعمه المجتمع الدولي، انعكس موقف القوى السياسية والثورية الرافضة له كرسالة سالبة إلى المجتمع الدولي ربما أوحت لذلك المجتمع، حتى الآن على الأقل، بغياب واضح لنضج العقل السياسي والحزبي لقوى الثورة.

وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه من هذا الانسداد والتمانع، فإن قناعة المجتمعين الدولي والإقليمي بعجز القوى الحزبية والثورية في عدم رؤيتها للفرصة الممكنة التي يقدمها اتفاق ” البرهان – حمدوك ” عبر استراتيجية تفكيك الانقلاب بسياسة الخطوة خطوة، ربما تنعكس في سياسات المجتمع الدولي في النهاية قبولاً بالأمر الواقع الذي سيكون بمثابة طوق نجاة للعسكر الذين متى ما وجدوا ضوءاً أخضر من المجتمع الدولي ذي النفس القصير، لن يتورّعوا عن قمع الثوار تحت دعاوى الاستقرار.

لذلك من المهم جداً لقوى الثورة السودانية، إعادة النظر في استراتيجية التصعيد وتوحيد رؤية لتوافق سياسي تاريخي ينقذ البلاد من خطر تفكيك وفوضى وسيناريو حرب أهلية محتملة.

على العقل الثوري والسياسي السوداني أن يدرك بوضوح أنه ما دامت هناك فرص ممكنة للسياسة في استعادة أهداف الثورة تدريجاً (كالفرص التي يوفرها اتفاق “البرهان- حمدوك” على ما فيه من نقص)، فإن المجتمع الدولي لن يغامر بتفويت فرصة استقرار السودان حتى على يد العسكر، ما دام الانسداد هو سيد الموقف، وأخشى ما نخشاه أن يكون العسكر قد فطنوا لهذه الاستراتيجية التي ينعكس انسدادها على نشاط القوى الثورية عبر التظاهرات المليونية، بالتالي تتيح للعسكر ضرب الثورة والاعتذار للمجتمع الدولي في الوقت ذاته، بحجة الرفض العدمي للقوى السياسية والثورية لاتفاق “البرهان – حمدوك”.

الوضع اليوم ليس فيه ما يشبه ظروف حدث 11 أبريل (نيسان) 2019 التي أدت إلى عزل البشير، وإذا لم تكُن القوى السياسية والثورية قادرة على رؤية ذلك الفرق الواضح بين وضع البشير منذ اليوم المشار إليه ووضع البرهان بعد اتفاقه مع حمدوك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، فيمكننا القول إنها بعجزها عن رؤية ذلك الفرق السياسي الجوهري، (علمت بذلك أو لم تعلم) تمارس تفريطاً عدمياً خطيراً في مكتسبات الثورة وحقوق الشعب السوداني.

الضغوط التي يتعرّض لها حمدوك، داخلياً وإقليمياً ودولياً من أجل سحب الاستقالة، لن تجدي ما دامت القوى السياسية منقسمة، أولاً، ومصرة، ثانيةً على استراتيجية التصعيد، من دون الاكتراث للعرض الذي ظل يقدّمه حمدوك من أجل توافق سياسي عبر حوار يفضي إلى تغليب الحس الوطني في هذه اللحظة التي تعكس حافة الهاوية للمصير السوداني برمّته.

ومع تضارب الأخبار في الخرطوم حول ما يمكن أن تسفر عنه الأيام المقبلة من البحث عن اختراق تحاول بعض الأحزاب الكبيرة عبره جمع الصف الوطني للقوى السياسية والثورية كلها للاصطفاف وراء حمدوك، فإن طبيعة رفض قوى الثورة السياسية المعارضة أحدثت شرخاً بينها وبين حمدوك، في ما تحسبه تلك القوى تحدّياً لحمدوك والعسكر معاً، لكن الحقيقة أن الطرف الذي لا يكاد يكترث لمآلات الأحداث، كيفما كانت، هم العسكر وليس حمدوك، فقد كان الأخير واضحاً منذ البداية على أنه إذا لم يتمكن من قدرة مستقلة في إمضاء قراراته وإجماع من القوى السياسية حوله في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به السودان، فهو عند ذلك لا شيء يثنيه عن تقديم استقالته من رئاسة الوازرة.

هناك أخبار متداولة لمحاولات إقليمية ربما تدعو إلى مبادرة بتنحّي البرهان عن السلطة، وبالرغم من أن ثمة مؤشرات عدة قد تنحو في هذا الاتجاه، لا سيما بعد ممارسات العنف المفرط للقوى الأمنية ضد تظاهرات الخميس الماضي 30 ديسمبر (كانون الأول)، لكن تظل مثل هذه المبادرات رهينة بإجماع قوى إقليمية ودولية ضاغطة في اتجاه تنحّي البرهان عن السلطة، بعد كل الضرر الذي تسبب فيه انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) على المرحلة الانتقالية وعلى الوضع السابق لما قبله وعلى مكتسبات الثورة.

لن يظل الأمر ضبابياً، وفي تقديرنا قد تسفر الأيام القليلة المقبلة عن تغيير ما، أو قرار ما يتم الإعداد له في الكواليس. لأن الانزعاج الدولي من القمع المفرط لتظاهرة الخميس 30 ديسمبر، لا ينسجم مع ما تتكشّف عنه الرسائل التي ظل يمررها العسكر والإجراءات التي يشتغلون عليها، من إعادة سلطة الاعتقال إلى “جهاز الأمن والمخابرات” ومن التصريحات التي تعكس انزعاجاً واضحاً من التظاهر السلمي للقوى الثورية والسياسية، خصوصاً على لسان الناطق الرسمي باسم مجلس السيادة العميد الطاهر أبو هاجة، كما مرّ بنا سابقاً إلى جانب تصريحات لقوات الدعم السريع التي يقودها الجنرال حميدتي اليوم تنحو في الاتجاه ذاته، لن يتراجع الشعب عن جدول المسيرات والتظاهرات التي أعلن عنها عبر لجان المقاومة وتجمع المهنيين، لهذا الشهر من السنة الجديدة وسيضع هذا الحراك المستمر إرادة العسكر على محك الامتحان، الأمر الذي سيعقّد من الأمور كثيراً ويفتح الباب على احتمالات للفوضى، نتيجة لذلك الانسداد والاستقطاب الذي تشهده استراتيجية قوى الثورة وانقسامها.

فاستراتيجيات التجريب والتجريب المضاد، سواءً في ظل حراك المليونيات من قبل القوى الثورية، أو ردود الفعل الأمنية المجربة التي ستواجه بها القوات النظامية ذلك الحراك، في حال غياب أي حل سياسي يلوح في الأفق، ستنحو باتجاهات للتصعيد المتزايد في كل جولة من جولات التظاهرات، ما يعني أن تزايد العنف بصورة مفرطة من قبل القوى العسكرية النظامية، بحسب التلويح الذي بدا واضحاً في التصريحات الصحافية من طرف العسكر، هو الذي سيكون سيد الموقف.

وبحسب ما رشح من الخرطوم أن أمس السبت كان هناك اجتماع بين طرفي “قوى الحرية والتغيير” (المجلس المركزي)، أو جزء كبير منه، و”الميثاق الوطني”، إلى جانب الجبهة الثورية مع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لبحث آخر الفرص الممكنة للتوافق السياسي الذي يضمن للأخير حداً أدنى من غالبية وازنة لقوى الحرية والتغيير للمضي قدماً باتفاق 21 نوفمبر نحو تسجيل اختراق مهم متى ما أسفر اجتماع السبت عن توافق بين القوى السياسية، وإلا فربما يكون اليوم الأحد عاصفاً لخيار حمدوك بتقديم استقالته، لهذا نتمنى أن يسفر اتفاق اجتماع السبت عن توافق سياسي بين قوى الحرية والتغيير أو غالبيتها. ذلك أن استقالة حمدوك، حال تعذّر الإجماع على موقف سياسي موحد بين القوى السياسية، ستنعكس كأزمة جديدة، قد تدخل البلاد في معادلات صفرية بين العسكر من ناحية، والقوى الثورية والسياسية من ناحية ثانية، ما يعني العودة إلى مربع جديد من الصراع، سيكون أبرز ما فيه أنه صراع عدمي فوّت فرصة سياسية لإنقاذ البلاد! ونرجو لذلك ألّا يكون!

في كثير من اللحظات الحرجة، لا يمكن للأفكار الموضوعية أن تجد سبيلها لقناعات الناس، وقد تمرّ مياه كثيرة تحت الجسر ودماء كثيرة أيضاً لتستقر فكرة ما بعد أن يفوت أوانها للأسف. الثورة ليست رفضاً وحراكاً أبدياً فحسب، بل هي كذلك قدرة على الإمساك بالمصير السياسي للوطن في اللحظات الحرجة التي قد تحدق بزوال وطن، ظل لأكثر من ثلاثين عاماً أشبه بكيان معطوب على يد نظام الإسلام السياسي!

المصدر: اندبندنت عربية – محمد جميل أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى