ثمة إشارات مؤثرة وأساسية طبعت الواقع اللبناني منذ الاستقلال وما قبله خلال أيام المتصرفية يمكن تعميمها على الواقع اللبناني كدستور عمل يمكن الإعتداد به، ومن بينها أوراق ديبلوماسية أهميتها تفوق كل تحرك ديبلوماسي جرى منذ تلك الايام وحتى اليوم، فحوى ورقة ديبلوماسية أرسلها في العام 1949 الوزير المفوض للبنان في واشنطن شارل مالك قبل عملية تبادل السفراء تقول التالي: «يخطيء من يعتقد ان لأميركا سياسة خاصة في الشرق الاوسط، فسياسة الولايات المتحدة هي سياسة إسرائيل فقط، ويخطيء أيضا من يراهن من اللبنانيين أن العالم سيهّب لنجدة لبنان في أزماته الكبرى، هناك دولتان فقط ستفعلان ذلك فرنسا والفاتيكان».

وحسب مصادر ديبلوماسية لبنانية تعتبر، أنه بمعزل عن قوة كلا الدولتين أو حرية التصرف في لبنان، يمكن وفق المشاهدات أن باريس والفاتيكان، وحدهما يتحركان بشكل مكثف ولا يتراجعان على الاطلاق، بالرغم من الخيبات التي سيطرت على عملهما، خصوصا خلال عملية إنهيار البلد بشكل تام، وتشرح المصادر عينها الاسباب الواجبة التي فرضت هذا التدخل وفق التالي:

1- بالنسبة لفرنسا أو الام الحنون التي توفاها الله، إما عن عجز أو سلسلة من الامراض المتراكمة، ما زال لديها صفة «الحنين» الى بلد وضعت بعض أسس إستقلاله وأنشأت الادارات والمؤسسات والمستشفيات فيه، لكن الحنين بات في علم الغيب وسيطرت الواقعية على عمل الادارات الفرنسية المتعاقبة منذ أوائل السبعينات، حين ظهر أن تأثير النفط والغاز قتل كافة العواطف الكامنة لدى السلطات الفرنسية، بالرغم من كون عامة الفرنسيين من كبار السن لديهم روابط ثقافية، إنما غير مؤثرة في السياسة العامة الفرنسية، وليس من هذا الشباك تطرق فرنسا باب لبنان في العام 2021، تضيف الاوساط، بل من كونه يملك أمرين هامين لسياستها الخارجية:

أ- هناك معلومات مؤكدة لدى الفرنسيين، خصوصا الشركات النفطية الكبرى، أن لبنان يمتلك في بحره كميات ضخمة من الغاز والنفط وهي قريبة من ساحل فرنسا، وتأكيد هذه الواقعة ناجم عن عملية الحفر التي بدأت بها شركة «توتال» في البلوك 4 قبالة كسروان، وما كانت تفتش عنه فرنسا في الخليج لتأخذ البقايا منه من أميركا، بات الآن لبنان يشكل هذا الهدف بعيدا عن «الحنان» وأخواته، وتلفت المصادر الى أن فرنسا لن تتخلى عن «حصتها» في لبنان من المشتقات النفطية مهما كانت الصعاب في وجهها، لكن تمت عملية عرقلة واضحة من الاميركيين وغيرهم لزيارات متكررة لدولة عظمى مثل فرنسا، حيث مكث رئيسها إيمانويل ماكرون أكثر من مرة في مرفأ بيروت بعد الفاجعة التي ألمت به.

ب- تطمح فرنسا وليس وحدها في طبيعة الحال «بشاطيء» على غربي المتوسط كغيرها من الدول الكبرى، حيث الاميركيين في «اسرائيل» والروس في سوريا، ولم يبقى سوى ساحل لبنان بطول 220 كلم للإقامة به، حتى ولو إضطر الرئيس ماكرون أن يحفظ إسم النائب محمد رعد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، وإرسال مبعوثه الخاص بيار دوكان الذي بات يشق طريقه نحو الضاحية بسهولة، بالرغم من العقوبات الاميركية والارهاب، وبات لهذا الرجل مع رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار إيميه موطيء قدم في معظم نواحي لبنان، وزياراتهما الى بيروت تكاد تكون دورية! كل هذا يجري مع غياب عنصر «الحنين» نحو أية طائفة في لبنان أو مذهب، وبات «يوم فرنسا» في لبنان الذي تقيمه بكركي سنويا على شرف «الأم الحنون» مجرد بروتوكول معتمد منذ مئات السنين، إنما مفاعيله غير مرئية إن لم تكن معدومة، فالعلاقات الفرنسية إنتشرت على كافة بقاع لبنان وباتت الطوائف كافة تتقاسم ما تبقى من «حنين» بالتساوي فيما بينها.

2- بالنسبة للفاتيكان الذي لا يملك دبابات ولا صواريخ، إنما قيمته الروحية والمعنوية في أرجاء العالم تؤثر في بعض الدول الغير مقررة على الساحة اللبناينة، وفيما «لبنان الرسالة» على كل شفة ولسان، تبدو مفاعيل  هذه الصرخة البابوية منذ عشرات السنين غير مؤثرة بفضل العجز اللبناني والتجاهل الدولي، وبديلا عن التمسك بها وإعتمادها دستورا للعمل، صار للبنان في كل حي مذهبه وطائفته مع «رسائل» تهديد من شارع لآخر ! وتتحدث المصادر الديبلوماسية عن سر خراب لينان وهو ليس بسر، بل ذلك أن معظم دول العالم تنشر مخابراتها في بلد تكاد مساحته توازي مقاطعة في الخارج، وتضيف : هناك دول أصغر من لبنان مساحة وشعبا تغيب عنها أجهزة إستخبارات العالم !! لأن في تلك الدول حد أدنى من عدم الإنبطاح تجاه كل ما هو أجنبي، وكذلك الامر إرتهان معظم القوى اللبنانية الى هذا المحور أو غيره.

هل يمكن التعويل اليوم على هاتين الدولتين لمساعدة لبنان، بعد هجرة الاميركيين ومعظم الاوروبيين والعرب؟

هذه المصادر تعتبر في المقام الاول أن اللبنايين أعداء نفسهم، ومسألة «تلطي» هذه الطائفة لإستهداف طائفة أخرى أمر قائم منذ القائممقاميتين ولم يتبدل حتى الساعة، بالرغم من تغييرات جذرية طرأت على المشهد اللبناني، وتقول: إن فرنسا لا تستطيع وحدها على الاطلاق إقامة سلام ورخاء في لبنان، وهي بحاجة دائمة الى صديق للإستعانة به، ناهيك عن إنشغالات فرنسا الدولية، بحيث يبدو إهتمامها الحالي بلبنان مرتبط بمصالح داخلية وخارجية فرنسية، وأمر إرسال أساطيلها الى هذا البلد المنقسم مجرد اوهام، وهي بالكاد ترسل مساعدات إنسانية الله وحده يعرف كيف تطير من أفواه الناس، وبالتالي هي عاجزة حتى عن مجرد حثّ الحكومة على الانعقاد، فيما لو أرادت أميركا ذلك يكفي أن تشير بإصبعها ليكتمل النصاب! وهذا يعني أن الجمهورية الفرنسية تستوجب الحصول على إذن أميركي، والامر غير متوافر حتى الساعة.

أما فيما خصّ حاضرة الفاتيكان، يبدو البابا فرنسيس، ووفق إمكانياته، يدعو كل فترة للصلاة من أجل لبنان ويجري اتصالات مع الدول الفاعلة إنما النتيجة غير متوخاة، وهذا يعني بكل وضوح أن البلد بحاجة الى سلسلة طويلة من العجائب، وزمن العجائب في السياسة منذ العام 1949 تغير وإبتعد ليشبه ردود الهاتف المغلق… يُرجى المحاولة من جديد !؟