من كامب دافيد إلى اتفاقات إبراهام (2)
سعادة مصطفى أرشيد _البناء
ترتبط كلّ من دولة الإمارات العربية والبحرين مثلها مثل جميع دول البترو- دولار الخليجية بالسياسات الغربية عامة، وبالسياسات الأنجلو- أميركية خاصة، ولكن جديداً كان قد طرأ على علاقاتها الأميركية في العقد الأخير، فلم تعد تلك الأنظمة حليفة وتابعه للإدارة الأميركية- أيّ إدارة أميركية، كما في السابق، وإنما أخذت جانباً من جوانب السياسة الأميركية، فالإمارات والسعودية والبحرين التزمت بسياسات الحزب الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب، فيما كانت قطر مرتبطة بالإدارة الديمقراطية منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، استثمرت جميعها كلّ في دعم سيده، مالياً على حساب ثرواتها وصناديقها القومية، وسياسياً ولو على حساب التضامن العربي والاقليمي وأكثر من ذلك، على حساب أمنها القومي، وهذا ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، حين استثمرت قطر ودعمت المرشح الديمقراطي الفائز جو بايدن، الأمر الذي أعاد لها دورها ومكانتها في الخليج خاصة، ثم في العالم العربي ووصولاً إلى أفغانستان، وأنهى في شكل خاطف الحصار الذي كانت قد فرضته عليها الإمارات والسعودية، وأصبح أميرها المنبوذ سابقاً، الضيف العزيز الذي يحظى باستقبال استثنائي في السعودية، فيما استثمرت الإمارات وفريقها في دعم الخاسر في السباق، وإنْ كان استثماراً عالياً في أكلافه، ومن ذلك الاستثمار مسارعتها في عملية التطبيع مع «إسرائيل»، ومشروع السلام الإبراهيمي، الأمر الذي تبجّح به الرئيس ترامب انتخابياً، وجعله يدعم صندوقه بمزيد من الأصوات، وإن لم يكن كافياً لفوزه، في نهاية ذلك السباق فازت قطر بخياراتها، وعادت لتكون اللاعب الخليجي الأول، فيما خسرت الإمارات وغيرها مِن مَن استثمر في دونالد ترامب، بالطبع مع بقاء الجميع داخل الصندوق الأميركي.
تبدأ حسابات الإمارات والخليج، من أنها حسابات ملوك وأمراء، لا حسابات دول وشعوب وأمة، فهؤلاء يرون في الدعم الأميركي لهم، ما يبقيهم جالسين على عروشهم، متمتعين بثروات أبناء شعوبهم الحالية وحتى التي لم تولد بعد، وهو أمر تحدث عنه الرئيس السابق ترامب بصراحة ووقاحة مارسها جميع من سبقه، ولكن من دون هذا الحد من الإعلان، فقد ذكر في خطاب له أمام جمهور ناخبيه في ولاية غرب فرجينيا- أثناء حملته الانتخابية الرئاسية- أنه أجرى مكالمة هاتفية مع الملك سلمان السعودي قال له فيها: «أيها الملك، أنت تملك كثيراً من المال، وعليك أن تدفع لنا، لأنك لن تكون قادراً على الاحتفاظ بطائرتك الخاصة، أو البقاء لأسبوعين من دون دعمنا، عليك أن تدفع مقابل حمايتنا لك». من هنا يعرف الملك السعودي وأقرانه، أن بقاءهم على عروشهم مرتبط بالإدارة الأميركية، وأن البوابة لدخول حمايتها يجب أن يمر بمحطة إلزامية اسمها «إسرائيل».
هكذا يتضح جلياً أنّ هذه الدول ترى أن لا أمن قومي لديها وإنما أمن الحاكم، ولا اقتصاد وطني لديها وإنما جيب الحاكم ومعه قله من أقربائه وجلسائه وبعض الوسطاء والسماسرة العاملين لديه، والولايات المتحدة و»إسرائيل» بدورهما حاضرتان: الأولى في شكل مباشر والثانية كانت في شكل خفي حتى العام الماضي، ومستفيدتان بالمال والسياسة وذلك بتغييب كل عناصر صراعهما مع الأمة عن الأجندة الخليجية، وهم لا يرونهما تهددانهما طالما التزموا بالدفع المالي والتفريط السياسي.
هذا التطبيع عاظم من دور «إسرائيل» السياسي، ففي حين لعبت منذ زمن دور الناظم للعلاقات العربية- الأميركية، ولكنها زادت عليها إذ أصبحت بفضل التطبيع المعلن منه والخفي تقضم من دور جامعة الدول العربية، وتلعب دور الناظم لبعض العلاقات العربية– العربية، كما يحدث هذه الأيام في توقيع اتفاقات الطاقة الشمسية والماء بين الأردن والإمارات و»إسرائيل»، أو وصول المنحة القطرية لغزة، كما سبق لها إن توسطت لدى حكومات عربية بهدف دعم موازنة السلطة مالياً لخشيتها من انهيارها.
في مرحلة سابقة، اتسمت علاقات هؤلاء مع إيران الشاه بالحميمية، ولم يروا حينها في إيران تهديداً لهم أو في المذهب الشيعي ما يتعارض مع أهل السنة والجماعة، وإنما رأوا التهديد يأتيهم من العراق الذي كان يملك رؤية قومية ومشاريع تنموية طموحة، وقدرة عسكرية قادرة على أن يكون لها قول فصل في الصراعات التي تتهدّد الأمة، فكان أن تمّ توريط العراق في حرب مع إيران ما بعد الشاه، ثم مع الكويت، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إخراج العراق من ساحة الصراع لا بل وإفلاسه وتمزيقه.
لكن حسابات دول الخليج والإمارات والبحرين لا تنتهي عند هذه المسالة فقط، وإنما ترى في إيران دولة ناجحة في مشاريعها التنموية، وقدراتها الذاتية في جوانب الصناعة والزراعة والتجارة، كما في التطور العلمي والقدرات العسكرية، وأصبحت إيران بفضل الحصار الطويل المفروض عليها، دولة على قدر من الاكتفاء الذاتي، وهي تتقدم بعلاقاتها مع الصين وروسيا في شكل ينعكس اقتصاداً وطرقاً وموانئ واستراتيجياً، وما يزيد من مخاوف هؤلاء، أنّ إيران عملت بمثابرة على مشروع إقليمي، كفل لها تمدّداً خارجياً عبر أذرع قوية ومؤثرة، من اليمن إلى العراق وسورية ولبنان وغزة، وتعمل الآن على مشروع عالمي وذلك بوصول ناقلات نفطها إلى القارة الأميركية الجنوبية، دعماً لفنزويلا.
مثّل انطلاق المشروع النووي الإيراني سبباً إضافياً لهذا القلق، الأمر الذي حاول مرشد إيران أن يبدّده بإصداره فتوى شرعية تحرم إنتاج السلاح النووي، باعتباره من أدوات القتل الجماعي والإبادة، وأكد في مناسبات عديدة على أنّ المشروع النووي الإيراني هو لأغراض سلمية فقط لا عسكرية، إلا أنّ ذلك لم يخفف من مخاوفهم ولا من مخاوف «إسرائيل»، فتشاركتا في التحريض على إيران، الأمر الذي تساوقت معه إدارة ترامب وعطلت العمل بالاتفاق الذي سبق لإدارة الرئيس الأسبق أوباما أن وقعته مع إيران.
نجاح بايدن في الرئاسة الأميركية، أعاد الملف النووي الذي عطله ترامب للعمل وفق تفاوض جديد مع إيران، وتبدي واشنطن لأسبابها الاستراتيجية رغبة في إنجاح مفاوضاتها مع طهران، وذلك أمر لم تحسب له الرؤى السياسية الخليجية الضيقة حساباً، فالإدارة الأميركية تتجه لتتموضع في بحر الصين ولا تريد من يعرقل عليها ذلك، لم تجد الإمارات في «إسرائيل» من يقاتل عنها وإنما اتضح أنها من يريد توريطها وتوريط الخليج بأسره، بسبب هذا الإدراك المتأخر شدّ ولي عهد الإمارات رحاله إلى تركيا للقاء أردوغان الذي سبق أن اتهم الإمارات بدور في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، ودعم الاقتصاد التركي بعشرة مليارات دولار، مقدراً لها أن توقف التدهور في سعر صرف الليرة التركية، فيما زار مستشار الأمن الإماراتي طهران، حاملاً رسائل ودودة إلى قيادتها وموجهاً دعوة لرئيسها لزيارة الإمارات.
إنه إدراك متأخر، ولكنه خير من عدم الإدراك، وما على الإمارات وغيرها من المطبّعين إدراكه أيضاً، هو المثل الشعبي القديم الذي يمكن صياغته صياغة عصرية على النحو الآتي: من تدفأ بالأميركي و»الإسرائيلي» ارتجف من شدّة البرد.