“المعركة” بين السلطة والمحقق العدلي تعود… متى تنتهي “المهزلة”؟!
خاص النشرة
أخيرًا، وبعد أسابيع من الانتظار، على وقع “تعليق” التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، عاد المحقّق العدلي القاضي طارق بيطار ليستأنف عمله، لمدّة يدرك هو قبل غيره أنّها قد لا تكون طويلة، في ظلّ “الكباش” المستمرّ بينه وبين الطبقة السياسية، التي “تفاخر” بعرقلتها التحقيق في أكبر جريمة من نوعها شهدها لبنان في التاريخ الحديث.
هكذا، ما كاد يعود القاضي بيطار إلى رأس عمله، حتى بدأت “التسريبات” عن إعداد القوى السياسية الرافضة لما تسمّيه “تسييس” التحقيقات، من دون أن ترضى باستكمالها على الأقلّ للحكم على النتائج، وفق المسار القانوني الطبيعي، لسلسلة من “الدعاوى” الجديدة، إمّا لـ”كفّ يده” بكلّ بساطة، أو لـ”مخاصمة الدولة”، وغير ذلك.
وبالموازاة، ما كاد المحقق العدلي يعود لاستئناف تحقيق كان يفترض أن ينتهي بأربعة أيام، وفق “وعود” القوى السياسية نفسها، التي تصرّ على “تجميده” بعد عام وأربعة أشهر على الانفجار “المشؤوم”، حتى عادت كذلك “الحرب” على الرجل، الذي نُسِب لرئيس مجلس النواب نبيه بري مثلاً وصفه له بـ”المتآمر”، متّهمًا إياه بأنّه “ينفذ أوامر ويتلقى تعليمات”.
إزاء كلّ ذلك، يصبح مشرّعًا السؤال عن مآل هذه “المهزلة” التي لا يبدو أنّها ستنتهي عمّا قريب، فما هي الخيارات التي تمتلكها القوى السياسية المتضرّرة من التحقيق، بعدما عرقلت مسار العدالة، وشلّت الحكومة ورهنتها مقابل قرار لا يعود إليها قانونيًا ودستوريًا، وهو تنحية قاضٍ؟ وهل تبصر “التسوية” التي كثر الحديث عنها النور أخيرًا، لتنهي “الكباش”؟!.
الأكيد من حيث المبدأ، أنّ “المهزلة” مستمرّة حتى إشعارٍ آخر، فالمحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت مصرّ على “المواجهة” حتى النهاية، وهو يرفض كما يبدو “الاستسلام” للأمر الواقع، فيما يتعامل مع الانتقادات التي تواجهه من كلّ حدب وصوب، كما الاتهامات بـ”التسييس والاستنسابية” وغير ذلك، وكأنّها “لم تكن” بكلّ بساطة.
ولعلّها “مفارقة لافتة” أن يكون النشاط الأول للقاضي بيطار بعد استئنافه بيطار، استقباله أهالي بعض الموقوفين، وتلقيه مراجعات من أهالي بعض الضحايا، حيث أراد أن يؤكد من خلال ذلك للقاصي والداني أنّه مستمرّ “على رأس عمله”، وإذا كان ثمّة “ظلم” لحِق ببعض الموقوفين، فإنّ القوى السياسية التي تواظب على “تجميد” التحقيق تتحمّل مسؤوليته بالدرجة الأولى.
وفي المقابل، فإنّ القوى التي أعلنت “الخصومة” مع القاضي بيطار ترفض بدورها “الرضوخ”، والإقرار بـ”الأمر الواقع”، أو انتظار القرار الظنّي الذي يفترض أن يصدره قريبًا، لتتعامل معه قانونيًا ودستوريًا، وفق الأطر المكفولة والمرعية الإجراء، بل هي تؤكّد أنّها ستكون له “بالمرصاد”، وتجهّز له سلفًا سلسلة من الدعاوى، توازيًا مع مواصلة “الضغط السياسي” من أجل “كفّ يده” نهائيًا، طالما أنّ أيّ قاضٍ لم “يجرؤ” على اتخاذ قرار “عزله”.
لكن، حتى في السياسة، يبدو أنّ هذه القوى في “مأزق فعليّ”، بعدما اصطدمت “التسوية-المقايضة” التي كانت “تطبخها” بالعديد من العراقيل اللوجستية وغير اللوجستية، بدليل أنّها “غُيّبت” في اللحظة الأخيرة عن جلسة مجلس النواب، التي لم يكن خافيًا على أحد أنّ قرار عقدها كان مرتبطًا أساسًا بإخراج “التسوية” التي كان يفترض أن “تفصل” مسار التحقيق، بحيث يتولى ما يسمى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء التحقيق مع السياسيّين.
ومع أنّ هذه القوى “ورّطت” القضاء مرّة أخرى في السياسة، من خلال “فضحها” وجود خلل “جوهريّ” في السلطة القضائية، حين حاولت إقناع “التيار الوطني الحر” بأنّ القضاة “المحسوبين عليها” (مع التحفّظ على مثل هذا التعبير) سيصوّتون في المجلس الدستوري لصالح الطعن الذي تقدّم به على تعديلات قانون الانتخاب، بما يتيح الموافقة عليه، ويشكّل “انتصارًا معنويًا” للأخير أمام جمهوره، إلا أنّ مسعاها لم ينجح أيضًا.
ويُقال إنّ السبب في فشل “التسوية” أنّ “التيار الوطني الحر” وافق على تأمين النصاب لجلسة نيابية تدرس إقرارها، من دون التصويت لصالحها، بعدما أدرك أنّ مثل هذا التصويت سيكون بمثابة “انتحار سياسي” عشية انتخابات مصيرية ومفصليّة، ولا سيما أنّ المزاج الشعبي، وخصوصًا المسيحي، يميل لدعم المحقق العدلي، ولا يتبنّى بالمُطلَق “فرضيّة” التسييس التي يرفعها الثنائي الشيعي، بل يعتبرها “محاولة هروب” من العدالة.
ومع رفض “التيار” التصويت لصالح “التسوية”، تبيّن للثنائيّ الشيعيّ أنّ نتيجة التصويت لن تكون لصالحها، لا من الناحية الميثاقيّة، مع إحجام الكتل المسيحية عن دعم فصل مسار التحقيق، ولا من الناحية العددية، في ظلّ “قلق” من أن يؤدي “الضغط المتوقع” من جانب الرأي العام على “ثني” بعض الكتل التي أبدت “موافقة مبدئية” على السير بالتسوية، على المضيّ بالأمر، تمامًا كما حصل مع ما سُمّيت بـ”عريضة العار” سابقًا، المتناغمة أساسًا مع “التسوية”، والتي سحب الكثير من النواب توقيعهم عنها “تحت الضغط”.
وبين هذا وذاك، يبدو أنّ الأمور ستستمرّ على “مراوحتها”، مع استمرار “الضغط السياسي” من خلال الحكومة، لاعتقاد القوى المتضرّرة أنّ الأمر سيقود حتمًا في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار “تنحية” المحقق العدلي “رأفة بالبلاد والعباد”، خصوصًا بعدما تصل الأزمة إلى “الذروة”، وهو ما قد لا يكون “بعيد المنال”، علمًا أنّ “الثنائي” يدرك أنّ رئيس الحكومة لن يذهب إلى خيار “التحدّي” عبر الدعوة لحكومة “بمن حضر”، كما يدعوه بعض الأفرقاء.
في النتيجة، يبدو أنّ “المهزلة” مستمرّة. الأمر ليس مجرّد “جولة كباش” بين قاضٍ وسياسيّين يتّهمونه بـ”التسييس”. القصّة أكبر من ذلك بكثير. هي ترتبط بمسار قضائي سياسي معقّد، وترتبط بمنظومة سياسية تصرّ على “التحكّم” بكلّ شيء. لكن، قبل هذا وذاك، هي قضيّة جريمة “زلزلت” الوطن بأسره، فإذا بتداعياته تكشف عن “فظائع” أكبر من انفجار المرفأ نفسه، تختصرها “الجهود المضنية” للإطاحة بالتحقيق وبرأس المحقّق عن بكرة أبيه!.