لماذا لا ينزل الناس إلى الشارع؟
كان تشرين الأول 2019 موعدًا لانطلاقة تحركات شعبية بحجمٍ واندفاع لم يشهده لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر على ضوء زياداتٍ ضريبية جديدة، فانتفضت شريحة كبيرة من الشعب اللبناني مفجّرةً غضبًا عمره عقود، ومطلقةً شعارات تطالب برحيل الحكومة والسلطة وتطالب بالعدالة الاجتماعية، وغيرها من مطالب معيشية في ظلّ وضعٍ اقتصادي خانق شاتمةً رموز سلطة عاثت في الأرض فسادًا، فكان الخطاب موجّهًا لكلّ ذي ذمّة في الدولة، وشعارًا يقول: لا. نرفض أن تكون هذه آخرتَنا.
انتهت التحركات ولم تنتهِ الأزمة، فلم تكن أزمةً عابرةً على الإطلاق كما ظنّ البعض وأوهم غيرَه، فاستمرّت وتستمرّ وستستمرّ حتى تعبر فوق جثة آخر فقير لبناني. وعندما كان للأزمة المالية النقدية الحكومية المصرفية السياسية أمد طويل، درجَ سؤال: لماذا لا ينزل الناس إلى الشارع؟ هل لم يعد هناك من جياع؟.
أغلب من يسأل هذا السؤال يسأل سؤالَ حقٍّ يُريد به الباطل، فهذا سؤال تهكّمي يُراد به التشكيك بنوايا الذين افترشوا ساحاتِ الوطن قبل نحو سنتين، فيكون السائل بذلك يعني بكلامه: قبل عاميْن كانت هناك سفاراتٌ وجِهاتٌ موّلتهم وأمرتهم بالنزول، واليوم وبعد أن خربوا البلد لم يعودوا يكترثون.
مع الخبث المختبئ بين سطور السؤال إلّا أنه سؤال مشروع وينبغي قراءته والإجابةُ عنه بواقعية بعيدًا عن السرديات التي ملّت الناس منها في العامين الأخيرين.
استيقظ رامي في 17 تشرين الأول عام 2019 على رائحة الدخان الذي سببته حرائق الشوف. توجّه إلى عمله فوجد زملاءه يتكلمون عن ضريبة شهرية ستقرّها الحكومة على مكالمات الواتسآب. كانوا يضحكون ويستخفّون بالأمر، “حتّى على الواتسآب لاحقينا؟”. أثناء عودته سمع سائق الأجرة الستّيني يشكو إضراب أصحاب المحطات وتهديدات أصحاب الأفران. هذا لبنان و”رح يبقى طول عمره هيك”.
من العبارات الخبيثة التي ترعرعنا على سماعها عبارة “هيدا لبنان”، ومعناها: كوننا في لبنان، علينا التحمل لأن هذا البلد هو أرض البلايا. فكان هذا الشعار الانهزاميّ المُحبِط شعارًا للبنانيين. هذا لبنان، لن تجد فيه أحلامَك وطموحَك والسعادة، فإن رضيتَ أهلًا وسهلًا وإن امتنعتَ فعليك بالمطار.
شاهد رامي مساءً فيديو لموكب وزير التربية الاشتراكي -وزير الحزب الذي لاحقًا سينصّب نفسه حزبًا معارِضًا ثوريًّا- يُطلق النار على متظاهرين شاهد فيهم أخاه وأخته وصديقه ونفسَه. انفجر غاضبًا حتى وصل إلى الساحة حيث، وقبل بضعة أسابيع، كان عدد المتظاهرين فيها لا يتجاوز العشرين، أمّا الليلة فالعدد بمئات الآلاف وطرقات البلد جميعها مقفلة.
ليس هناك سبب واحد لامتناعِ اللبنانيين عن التوجه اليومَ إلى الشارع، بل هناك عدّة عوامل نستطيع استخلاصها من هذه القصة، ومن خلالِ أسئلة طرحناها على عدّة أشخاص عشوائيين.
“لم يعد لدينا ترف الوقت”.
“أجري اليومي هو مئةُ ألف ليرة لبنانية أو أربعة دولارات، لن أخسره لكي أنزل إلى الشارع”.
“لينزلِ المتحزّبون”.
“أنا لست متأثّرًا ككثيرين غيري، وأستطيع تدبير أموري، فلينزل المتحزبون الذين أعطوا شرعيةً لمَن سرقنا والذين اعتبروا أننا عملاء وخونة ويطالبوا زعماءهم بتحسين أوضاعهم”.
ولكن لا، عذرًا عبدَ الحليم، من شبكَنا لا يُخلّصنا.
“أنا أسكن في منطقة حسّاسة وأخشى أن يلحقني ضرر”.
درجَت بُعيد الاحتجاجات حملة “قبل السحسوح – بعد السحسوح” حين تمّ الاعتداء على بعض من شاركوا في الاحتجاجات وتصويرهم وهم يعتذرون من القيادات السياسية التي شتموها بمشهدٍ يدلّ على الإرهاب والحريّة اللذين تتصرّف وفقهما الأحزاب في ظلّ غياب الدولة (همُ الدولة).
“التحركات غير صادقة وتستهدف حزبي فقط”.
هذا شعورٌ يشعر به أكثر من طرف، مناصرو تيار المستقبل اعتبروا أنّ المتظاهرين اكتفوا باستقالة الحريري ثمّ قلت حماستهم بعد ذلك لأنهم وصلوا لطموحهم. ورأى التيار الوطني الحرّ أن ما يجري هو اغتيال جبران باسيل سياسيًا وتصويب الاتهامات نحو رئيس الجمهورية. واعتبر مناصرو حزب الله أنّ التحركات ستتحوّل من طلبات معيشية لحملات مطالِبة بنزع سلاحه.
“لن أنزل إلى تحرك لا أعرف الجهة الداعية إليه”.
نزل الشعب في خندق واحد فوجد أن السلطةَ باتت كلُها معارضةً وتقول لهم نحن معكم في خِندق واحد.
“لا أريد النزول إلى شارع تحتله أحزاب السلطة كما جرى سابقًا عندما تسلّلتِ الأحزاب للساحات لتحقيق مآرب سياسية وأهداف ومشاريع شخصية”.
هذا تفكيرٌ سليم، فالمنطق الصحيح يتطلّب مشروعًا وبرنامجًا واضحيْن يستطيعان استقطاب المعارضين في ائتلاف أو حركة سياسية تنظّم المطالب وتُوجّه الناس، حينها يصعب اختراق الشارع ووجود طابور خامس، ثمّ تضغط هذه الحركة من خلال العمل النقابي أو التحركات الشعبية وغيرها على السلطة حتى تتبنّى مشروعها.
لا ينفع سوى حل خارجي.
“نحن بلد تسويات، ولا نستطيع التغيير، نحن في حفرةٍ شبه استحالةٍ صعودُنا منها دون مساعدة الخارج الذي أنا أُريد وأنتَ تُريد وهو يفعلُ بنا ما يُريد. لا يستطيع أحد التغيير من الداخل، علينا أن ننتظر الخارج الذي هو من افتعل هذه المشكلة في لبنان وعليه أن يحلّها”.
تخيّل أنّ هناك للأسف من ينتظر من الخارج أن يكونَ حريصًا على مصلحتِنا أكثرَ من أنفسِنا.
الإحباط الجماعي
“ماذا على الشعب أن يفعل أكثر ممّا فُعل؟ لن نستطيع أن نجمع عددًا أكبر ممّا جُمِع، فما الهدف والجدوى بعد اليوم؟ من يردْ حياةً سعيدةً أو عادية فليهاجر،. حتى ولو نزل الشعب بأكمله، هل هناك من دولةٍ ليحتجّوا ضدّها ويطالبوها؟
ها هو انفجار المرفأ أكبر دليل، لم يعد أحد يؤمن بالتغيير. في أيّ بلدٍ كان هكذا انفجار كان سيشكل سببًا لإسقاط أكبر نظام، ماذا حصل هنا؟ لا شيء!”.
عدّة عوامل إذًا، وعنوانُها الأكبرُ اليأس، إذ بات الشعب يصبُّ جهودَه نحوَ الهجرة ويسعى وراء لقمة العيش فقط. فبالنسبة للكثير هذا بلدٌ ميؤوس منه، ملعونٌ ما فيه، منبوذٌ من فيه، فعدنا بهذا للعبارة التي ذكرناها أول المقال وهي اعتبارُ أننا في بقعةِ أرض كُتب على قاطنيها المأساةُ والإحباطُ والموتُ يوميًا، أرضُ رباطٍ إلى يوم الحشر، هي الموتُ وخارجها الحياة، تبًا لكل مرقدِ عنزةٍ في جبلِها، كلّنا على الوطن وكلّنا يبحث عن عمل، عينُ زمنها مفقوءة، سهلُها نارٌ وجبلُها دمار، منبتُ الرجال المهاجرة والطاقات المفقودة، قولُنا والعملُ اليومَ هو لعيشٍ هنيءٍ خارجَ بقاعِها.
هي علاقة شبيهة بعلاقة شابّ تركته حبيبتُه، تنفصلُ عنه فيغضب ويحقد، ثمّ يقف على الأطلال باكيًا، ثمّ في النهاية ينساها ولا يعود يكترث. غضبُ سنوات تراكم في نفوس اللبنانيين وانفجر، أقسموا على الانتقام، بعدَها أحسّوا أنّ كلّ شيء انتهى، فبدأ الوقوفُ على الأطلال، “خدلي ليالي كل عمري وهات، بعد شي ليلة متل هالليلة”، يوم هتفت صور لطرابلس وكسروان لبيروت، يومَ وقفتِ الناس وكأنّها تقول: هذا بلدُنا وأنتم من عليكم الهجرة، هنا خُلقنا وهنا نموت، هنا عِشنا وهنا على أولادنا العيش، هذه الأرض لنا وهذا البحر لنا وهذه السماء لنا، هذه أرزاقنا وثرواتنا، هذا الخير الذي قُسِم لنا وأنتم من يمنعه عنّا، أمّا اليوم، فقد وصل أغلب المواطنين إلى مرحلة عدم الاكتراث.
لم نستطِع بعدُ استيعابَ ما حصل جيّدًا، ما زلنا في حالة نُكران. سُرقت أموالنا، نُهبت خيراتُنا، فُجّرت عاصمتُنا، احترقت أحراجُنا، مرضانا بلا دواءٍ ورعاية، أولادنا غدًا بلا مدرسةٍ وعلم، شبابُنا غرقى يوميًا في عبّارات الموت، وهناك من يزال يصرّ على إنكارِ الأزمة وتسطيحِها. كارثتنا عظيمة جدًّا، وإلى كلّ طامعٍ باقتراب صعودِنا من الحضيضِ، نحن لم نصل إلى نصف الهوَّة بعد. ليس هناك من آخرٍ لهذا النفقِ، وليس هناك من ضوء. الضوءُ يبتعد أكثرَ فأكثر، سفينتُنا تغرق كالتايتانيك، وما زالت أوركسترا الحكّام المجرمين تعزف أغنية “غطّي الشمس بفيّ جبينك”. تبًا لهم قد صدقوا، صدق الخبيثُ قدِ اعتدنا! تبًا لعنفوانِنا وسرعةِ تأقلمِنا، أرخيْنا أجسادَنا في المياهِ وأغلقنا عيونَنا لأننا لا نريد رؤيةَ آخرتِنا، نحن الّذين صدحَت أصواتُنا يومًا في ساحات الوطن: نرفض أن تكونَ هذه آخرتَنا.
في نهاية المطاف، نحن نؤمن أن انتفاضة تشرين أسّست لوعيٍ اجتماعي نسبي قد تأتي ثماره يوماً ما، بقلب الطاولة على أمراء الحرب والفساد، إن بقيَ منّا أحد على هذه البقعة. لا والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمَة، لا ومَن حقَّ الحقَّ لا ننسى، اظلموا وافسقوا ما استطعتم، وإن كانت الهجرةُ مكتوبةً على كل مواطنٍ، فأقلُّ الإيمانِ منّا قبل الرحيل أن نقاوم.