غابة الداخل المحتلّ: الذئب الإسرائيلي يكافح الجريمة!
الأخبار- بيروت حمود
«بينما كان ديختر يتسلّى بتناول المكسّرات، قال لنا: ستدفعون الثمن غالياً. ما شأنكم وشأن الضفّة والأقصى؟ سيأتي يومٌ تكونون فيه عالقين بينكم وبين أنفسكم». الكلامُ لرئيس «الشاباك»، آفي ديختر، في الثالث من تشرين الأول 2000، أي بعد ثلاثة أيام على اندلاع الانتفاضة الثانية. أمّا مصدر الحديث، فهو جزء من محضر دوّنه المدير السابق لـ«لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل»، عبد عنبتاوي، الذي شارك، في ذلك اليوم، في الاجتماع مع رئيس الوزراء، إيهود باراك، وديختر، للبحث في الاحتجاجات التي عمّت المناطق المحتلّة، وسقط فيها 13 شهيداً من فلسطينيّي الداخل، وآلاف الجرحى. لم تمضِ سنوات قليلة، حتى تحوّل التهديد إلى واقع، وبات فلسطينيّو الـ48 عالقين في متاهة موتٍ لا أمل في الخلاص منها، إلّا بزوال مسبّبها: الاحتلال، إذ طبقاً لمعطيات «المركز العربي للمجتمع الآمن»، فقد سُجّل، منذ عام 2000 إلى اليوم، سقوط 1623 ضحية. وهو ما لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل نتيجة سنوات طويلة من التخطيط لأسرلة مشاريع المجرمين، وإفقارهم، وجعل النسبة الكبرى منهم إمّا عاطلين عن العمل، وإمّا تحت خطّ الفقر، ما يدفعهم إلى العمل جنوداً عند منظّمات الإجرام، بوصْف ذلك أسهل وظيفة بالنسبة إليهم، ولا تتطلّب أن يكون الواحد منهم خرّيجاً من إحدى الجامعات.
يُضاف إلى ما تَقدّم أن سياسة الإفقار، إلى جانب السياسات البنكية التعجيزية، أدّت إلى لجوء عامّة الناس إلى الاستدانة من السوق السوداء التي تديرها تلك المنظّمات. ولأن الأخيرة تُقرض الناس بفائدة تصاعدية خيالية، يجد المستدينون أنفسهم، في نهاية المطاف، عاجزين عن سداد قروضهم. ومن هنا، تبدأ رحلة العذاب، حيث يتعرّض المرء للتهديد والابتزاز، ومن ثم يتحوّل التهديد إلى واقع، عبر إطلاق النار على ممتلكاته، وفي حال عدم استجابته، يتعرّض، هو أو أحد أفراد عائلته، للقتل. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ يلاحَق أفراد العائلة، إلى أن يجري التنازل عن الممتلكات، أو سداد الدين. حتى الأغنياء، وأصحاب المصالح التجارية من الفلسطينيين، ليسوا محميّين، ولا خارج دائرة الاستهداف، بل هم يتعرّضون بدورهم للمساومة، في إطار ما يُعرف بـ«جرائم الخوّة»، حيث تَفرض منظّمات الإجرام عليهم دفع مبلغٍ شهري لها، وفي حال عدم استجابتهم لا تتورّع عن إطلاق النار عليهم.
تعمل المنظّمات الإجرامية، التي تديرها عائلات ذات علاقات وطيدة مع السلطات الإسرائيلية، في أكثر من مجال، منها الإتجار بالسلاح والمخدّرات، وتبييض الأموال، والصيرفة والسوق الموازية (أكثر من 20% من محالّ الصيرفة مملوكة أو تابعة لها)، والحماية، والخوّات، والابتزاز، وجباية أموال الديون، والخردوات، وإعادة التدوير، وغيرها. ممارساتٌ خلّفت، الشهر الماضي وحده، عشر ضحايا إلى جانب عشرات الإصابات الموثّقة، ومئات حوادث إطلاق النار. وكان قد تمثّل أفظع تلك الحوادث في قتْل أمّ أمام أطفالها في المغار، وإطلاق ملثّم النيران على مديرة مدرسة في عرابة أمام طلّابها، فضلاً عن قتْل ملثّم آخر شابّاً على مرأى عدد من الأولاد الذين انهمر الرصاص بينهم، في الوقت الذي كانوا يلعبون فيه كرة القدم في حي الحليصة في حيفا. وسبق ذلك، نجاح المجرمين في تحويل عرسٍ في مدينة الطيبة إلى مأتم، حيث سقط قتيل وسُجّلت ستّ إصابات. وفي مدينة جلجولية، وصلت الجريمة إلى حواف المقبرة، عندما كان المشيّعون خارجين من وداع عزيز لهم، ليرصدَهم ملثّم ويُردِي أحدهم قتيلاً.
باختصار، المشهد عبارة عن «غابة» فعلاً، كما وصفه وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عومير بار- ليف، الذي يقف كيانه، بكلّ مؤسّساته، وفي مقدّمتها الشرطة وأجهزة الأمن، وراء توسّع رقعة هذه الغابة وخروجها عن السيطرة. وهو ما عبّر عنه مسؤولون في الشرطة، لوسائل إعلام عبرية، أكثر من مرّة، بالقول: «إنّنا نفقد السيطرة على ما يَحدث في الوسط العربي (فلسطينيو الـ48)». أمّا قطع السلاح المنتشرة بين أيدي المجرمين، فلا أحد يعرف كمّها الحقيقي؛ إذ يُقال، بناءً على تصريحٍ لوزير الأمن الداخلي السابق، جلعاد إردان، إنها تُراوح ما بين 400 – 600 ألف قطعة، وإن أكثر من 70% منه مصدرها جنود الاحتلال، الذين يبيعونها للمنظّمات الإجرامية، ويبلّغون في الدوائر المعنية بأنها «سُرقت». المفارقة أن أجهزة «إنفاذ القانون وتطبيقه»، لم تَغِب إلّا حيث يجب أن تكون موجودة؛ فقد حضرت لتسلِّم محاضر تحقيق سرّية لمجرمين يخضعون للتحقيق في مدينة طمرة، مثلاً، وفق ما كشفه بيان صادر عن الشرطة ذاتها، في وقت سابق من الشهر الماضي. كما عملت على تجنيد العملاء في القرى والبلدات التي تحوي مقرّات للشرطة، ونصبت كاميرات مراقبة، مستغلّة الجريمة كمدخل لإحكام سيطرتها الأمنية على الفلسطينيين، فيما القتَلة ظلّوا طلقاء يحصدون أرواح ضحاياهم، إلى حدّ أن جريمة واحدة من بين كلّ أربع جرائم فقط تُفتح فيها ملفّات جنائية، وفق ما أفاد به تقرير سابق لصحيفة «هآرتس» العبرية.
ومع اندلاع الهَبّة الفلسطينية في أراضي الـ48، دعماً للمقاومة في معركة «سيف القدس» في أيار الماضي، بدأت إسرائيل تتذوّق طعم «السُّم» الذي وضعته في «الطبخة». وها هي منذ أشهر، تحاول تلقّف الصدمة، واضعةً عشرات الخطط لـ«مكافحة الجريمة»، عبر إنشاء وحدة «سيف» الشرطية، ووحدة للمستعربين، من أجل الدخول إلى القرى والبلدات الفلسطينية، وتجنيد أكثر من 1200 عنصر شرطي، وافتتاح مقرّات جديدة للشرطة، وإقامة مركز استخباري في وسط فلسطين، فضلاً عن إشراك جهاز «الشاباك» والجيش في حملاتها «ضدّ الجريمة». وبينما ادّعت، في وقت سابق من الشهر الماضي، أن إحدى حملاتها استهدفت «كبار تجّار» الأسلحة، الذي أوقعت به من طريق دسّ عميل سرّي، يتّضح يوماً بعد يوم أن المستهدَف من تلك الحملات إنّما هو «السلاح الفردي»، ذلك الذي يمكن أن يُصوَّب، في لحظة الحقيقة، باتجاه الجيش والشرطة الإسرائيليين، بدليل ما يكشفه المحامي أحمد خليفة من أنه توكّل بالدفاع عن أحد «كبار تجّار السلاح»، وهو ليس إلّا طفلاً عمره 13 عاماً! وفي هذا الإطار، يقول خليفة، لـ«الأخبار»، إن «والد الطفل معتقل بتهمة إطلاق النار على جيب عسكري إسرائيلي»، مضيفاً أن «اعتقال الطفل، ليس إلّا للضغط على والده». المحامي الفلسطيني، ابن مدينة أمّ الفحم التي شهدت آخر الجرائم أمس – التي أدّت إلى مقتل اثنَين أحدهما على يد الشرطة الإسرائيلية – يشدّد على أنه «لا يمكن إنكار حقيقة أنه توجد حملة لجمع السلاح، غير أن الدافع لذلك هو خشية الشرطة من اتّساع تأثيره، وامتداده إلى عمق المناطق الأخرى، حيث تخشى الشرطة من أن المواجهة المقبلة قد يُستخدم فيها السلاح». ويؤكّد خليفة أن الشرطة لم تكن لتتحرّك «لولا أنها شعرت بخطورة الأمر»، لافتاً إلى أن «الهدف هو ضبط استخدام السلاح غير الخاضع لسيطرة منظّمات الإجرام، والذي يقتنيه البعض بهدف الدفاع عن النفس والحماية بسبب غياب تطبيق القانون»، ما يعني «الإبقاء على السلاح المخصّص لتفكيك المجتمع الفلسطيني في الداخل، أي إدارة الجريمة وليس القضاء عليها… فتفلُّت السلاح أمرٌ يصعب السيطرة عليه، والتفريق بين استخدامه جنائياً أو أمنياً، طالما لا خطّة واضحة لمكافحة الجريمة بكلّ آثارها».
وإلى جانب حملة جمع السلاح، ثمّة حملة ضخمة لـ«تجفيف الجريمة اقتصادياً». ولأجل ذلك، بدأت الشرطة شنّ حملات تستهدف مَن تقول إنهم، إمّا يموّلون الجريمة وإمّا يوفّرون المال لعناصر إجراميين، أو المتورّطين في مخالفات وتبييض أموال وجرائم مالية ومخالفات ضريبية. وبينما لا يمكن إنكار حقيقة أن أحد الوجوه الأساسية للجريمة في الـ48، هو الجريمة الاقتصادية، وأن المتورّطين فيها كُثُر، إلّا أن الحملات التي تجري اليوم بالجملة، مستهدفةً أصحاب المصالح في كلّ من الجليل والمركز والنقب، تبدو أقرب إلى العقاب الجماعي، والسياسات الاستفزازية العنصرية التي تنتهجها الشرطة ضدّ الفلسطينيين، نتيجة وقوفهم إلى جانب شعبهم في أيار المنصرم. وهو ما تَجلّى في مدينة عرابة خصوصاً، حيث قادت «اللجنة الشعبية» احتجاجات على الممارسات العقابية بحقّ أصحاب المصالح التجارية، لتواجهها الشرطة وسلطات الضرائب وإنفاذ القانون بتسطير المخالفات «عن جنب وطرف». وأمّا النقب المنسيّة، حيث القرى غير المعترف بها إسرائيلياً، والتي تحيا من دون الحدّ الأدنى لشروط العيش، من ماء وكهرباء وبنى تحتية وصحّية وتعليمية، فقد طاولها نصيب من المداهمات والاعتقالات، وصولاً إلى تنفيذ إنزال بقوات خاصّة من مروحيّات على أسطح البيوت، كما حدث في قرية أبو تلول.
في المحصّلة، مَن خلق بيئة الإجرام في الأراضي المحتلّة ليس إلّا سلطات العدو بأذرعها المختلفة، التي تسبّبت في أن يحيا فلسطينيو الـ48 منتظرين موتهم على أيدي قتَلة متنقّلين، يتغذّون من وجود الاحتلال، الذي يتغذّى هو، في المقابل، على توسيعهم رقعة أعمالهم وتطويرها. أمّا صحوته الأخيرة، فليست إلّا لأنّه بدأ يكتوي بالنار التي أشعلها بنفسه.