تحقيقات - ملفات

السعودية تواجه أميركا: أسعار النفط لنا

 

عبادة اللدن -أساس ميديا

خاضت السعودية على مدى السنوات الخمس الماضية مواجهات لا سابق لها لضبط قواعد اللعبة في أسواق النفط العالمية، وهي اليوم تواجه سياسة الرئيس الأميركي جو بايدن بالمقدار نفسه من الحزم والهدوء.

لا يتعلّق الأمر فقط بقرار بايدن سحب 50 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي الأميركي، بل يتعدّاه إلى سعي واشنطن إلى قيادة عمليّة دوليّة منسّقة للسحب من المخزونات الاستراتيجية، تشمل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا، في ما يشبه التحالف الموضعي لكبار مستهلكي النفط بمواجهة تحالف المنتجين الذي يضمّ دول منظمة “أوبك” بقيادة السعوديّة وحلفائها من المنتجين المستقلّين بقيادة روسيا.

المثير للاهتمام في السحب الذي أعلنه بايدن أنّه الأكبر منذ البدء ببناء المخزونات الاستراتيجية الأميركية عام 1975، ولم يسبقه سوى عمليّات سحب قليلة في ظروف طارئة، كانت أولاها عام 1991، حين قرّر جورج بوش الأب الإفراج عن 17 مليون برميل من المخزونات لتعويض انقطاع الإمدادات من العراق والكويت إبّان حرب الخليج. وعام 2005 أفرج جورج بوش الابن عن 11 مليون برميل إثر توقّف الإنتاج في خليج المكسيك الأميركي بفعل إعصار كاترينا. وعام 2011، أفرج باراك أوباما عن 30 مليون برميل ضمن عمليّة منسّقة قادتها وكالة الطاقة الدولية لضخّ 60 مليون برميل في الأسواق لتعويض انقطاع الإمدادات الليبية.

المختلف هذه المرّة أنّ بايدن لا يستخدم المخزونات الاستراتيجية لتعويض انقطاع طارئ للإمدادات، وهو شرط يلزمه به “قانون سياسة الطاقة والحفاظ عليها” الصادر عام 1975، بل يستخدم السحب كسلاحٍ من أسلحة السوق، بغرض صريح هو خفض أسعار النفط، وفي ذلك خروج عن قواعد اللعبة ستكون له تبعات مستقبلية كبيرة. فلطالما اتّهمت واشنطن “أوبك” بالتأثير على الأسعار، فيما كان الخطاب السعودي يشدّد دوماً على أنّ “أوبك” لا تستهدف مستويات سعريّة محدّدة، وإنّما تهدف إلى إحداث توازن في السوق النفطية، بما يضمن استمرار الاستثمارات الجديدة على المدى البعيد.

وها قد دخلت واشنطن لعبة الأسعار، ولا تستطيع بعد الآن أن تتّهم الآخرين بها.

تاريخ المواجهات

يحفل تاريخ أسواق النفط بمواجهات كثيرة بين السعودية والولايات والمتحدة، بوصف الأولى قائدة صناعة إنتاج النفط وتصديره، وبوصف الثانية قائدة جبهة المستهلكين.

لعلّ المواجهة الأكثر حضوراً في الذاكرة الجمعيّة هي أزمة 1973، حين قطع الراحل الملك فيصل الإمدادات النفطية نصرةً لمصر وسوريا في حرب أكتوبر (تشرين الأول). بعد تلك الأزمة، قادت الولايات المتحدة تأسيس وكالة الطاقة الدولية عام 1974، بهدف ضمان أمن الطاقة للدول المستهلكة للنفط، في مواجهة النفوذ الكبير حينها لمنظمة “أوبك”. فأُسِّس لأجل ذلك ما يُعرف بـ”برنامج الطاقة الدولي” (IEP)، الذي يُلزِم الدول الأعضاء بتكوين مخزونات بترولية استراتيجية تعادل استهلاكها على مدى تسعين يوماً.

تقلّبت أحوال سوق النفط كثيراً منذ ذلك الحين. ففي عقد الثمانينيّات حدثت طفرة نفطية في حقول الشمال الأوروبية، فتضاءلت حصّة “أوبك” في السوق النفطية العالمية. وفي التسعينيّات تزايد الإنتاج في دول أخرى خارج “أوبك”، إلى أن أتى العقد الماضي بطفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة، فانهارت أسعار النفط عام 2014، وظلّت على ضعفها حتى عام 2016 حين قادت السعودية الحركة الدبلوماسية الأكبر في القطاع منذ عقود، وأقنعت روسيا للمرّة الأولى بالانضمام إلى تحالفٍ لتقييد الإنتاج ضمن ما عُرف باسم “أوبك بلاس”.

أظهر ذلك التحالف حذاقة الدبلوماسية النفطية السعودية وقدرتها على الإمساك بخيوط اللعبة. وتمظهرت تلك الحنكة مرّة أخرى في الاختبار الكبير الذي تعرّض له اتفاق “أوبك بلاس” عندما انهار الطلب العالمي على النفط في ذروة جائحة كورونا في الربع الأول من العام الماضي. حينئذٍ تباينت الخيارات بين الرياض وموسكو، إذ دفعت الأولى باتجاه خفض صارم للإنتاج، فيما كانت الثانية متردّدة في التضحية بجزء من حصّتها السوقية، خشية أن يملأ النفط الأميركي الفراغ.

أدّى ذلك التباين إلى فشل الاجتماع الشهير لـ”أوبك بلاس” في آذار 2020، فذهب كلٌّ في طريقه. وكان الردّ السعوديّ قاسياً جدّاً، إذ فتحت صنابير الإنتاج بأقصى طاقتها، ليتجاوز إنتاجها 12 مليون برميل يوميّاً، وكانت النتيجة انهيار أسعار خام غرب تكساس في الشهر التالي إلى ما دون الصفر. بعد ذلك عادت موسكو إلى الوقائع، وتركت للسعودية قيادة جهود إصلاح السوق، فكان الاتفاق التاريخي في نيسان 2020 على أكبر خفض للإنتاج في التاريخ بنحو 9.7 ملايين برميل يوميّاً.

التعاون السعودي الروسي

تزايدت وتيرة التعاون السعودي الروسي منذ ذلك الحين، حتى وصل الأمر بنائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك أن بعث رسالة إلى وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان يفوّضه فيها اتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً في اجتماع “أوبك بلاس” في آب الماضي.

في الأشهر الماضية، تصاعدت ضغوط إدارة بايدن على “أوبك” وحلفائها لتسريع وتيرة زيادة الإنتاج، إلا أنّ “أوبك بلاس” أبقت على سياستها النفطية بلا تغيير في اجتماعها مطلع هذا الشهر، فأتى الردّ الأميركي بالسحب من المخزونات الاستراتيجية للضغط على الأسعار.

يظهر ذاك الردّ، بشكله ومضمونه، محدوديّة تأثير الإدارة الأميركية على قرارات “أوبك”. حتى إنّ الإدارة اضطرّت إلى طلب التنسيق مع أحد ألدّ الأعداء في العقيدة الاستراتيجية لبايدن، وهي الصين، إلى جانب دول أخرى حليفة لواشنطن، لكنّها والأخيرة على طرفيْ نقيض، مثل اليابان وكوريا الجنوبية.

وفي ما هو أبعد، ستُظهر الأسابيع المقبلة أنّ بايدن خاض مغامرة شاقّة، فالسوق تدرك تماماً أنّ لسلاح المخزونات حدّاً زمنياً سريع الاستنفاد، وإذا ما انتهى المفعول النفسي لعملية السحب سريعاً فستخسر واشنطن آخر أوراقها الثقيلة، وسيكون لذلك أثر عكسي على بايدن وحزبه الديموقراطي قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.

حين انهارت أسعار النفط في آذار 2020، قيل الكثير عن تشجيع أميركي ضمنيّ لاتفاق “أوبك بلاس” في عهد دونالد ترامب، بهدف إنقاذ صناعة النفط الصخري. وفي الأسواق الدولية اليوم أصوات كثيرة تقول لبايدن: دع الأمر للسعوديّين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى