سفير الشمال- غسان ريفي
لم تكن النيران التي إندلعت في الأحراج اللبنانية من الجنوب الى الشمال على مدار اليومين الماضيين، أقل وطأة من تلك النيران التي تشتعل في صدور وأعصاب اللبنانيين غضبا على الأوضاع المعيشية والاجتماعية التي لم يعد أحد معها قادرا على تأمين أبسط مقومات العيش الكريم.
وإذا كانت الحرائق ناتجة عن إهمال وعدم تقيّد بالارشادات، أو بفعل فاعل لتأمين الحطب والفحم في زمن البرد القارس وجنون أسعار المحروقات، فإن الحرائق السياسية التي تشل عمل الحكومة وتهدد لبنان بالارتطام المدمر وما قد يحمله من تداعيات كارثية على الجميع، إنما ناتجة عن سابق تصور وتصميم يقضي بتقديم المصالح والمكاسب الشخصية والفئوية والانتخابية على المصلحة الوطنية العليا التي يأبى كثيرون أن يبادروا الى تقديرها وإتخاذ القرارات المناسبة حيالها.
كل ما يحصل في البلاد بات بعيدا كل البعد عن المنطق، ما يولد إنطباعا لدى أكثرية اللبنانيين بأن ثمة من يريد الانتقام منهم سواء بحرق أراضيهم وأحراجهم وأشجارهم المعمرة، أو باذلالهم في لقمة العيش وحبة الدواء وجنون سعر الدولار، أو إستدراج بلدهم نحو المنزلق الأمني الخطير الذي أعطت “شويا وخلدة والطيونة” نماذج عنه، والحبل على الجرار إذا لم يصر الى إستفاقة سريعة تنقذ البلاد والعباد من جهنم بدأت تلفح نيرانها الوجوه ليل نهار.
أمام هذا الواقع بات الإنقاذ بيّنٌ والانهيار بيّنٌ.
فالانقاذ يحتاج الى حكومة فاعلة تتمتع بعلاقات دولية وعربية جيدة جدا لتأمين المساعدات المرصودة للبنان، ولتقديم ما أمكن من تسهيلات في مفاوضات صندوق النقد الدولي، ومن دعم في الحصول على القروض من البنك الدولي والجهات المانحة، الأمر الذي يضطر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على تجميع الوزراء في لقاءات فردية وثنائية وجماعية وتفعيل اللجان الوزارية للقيام بالمهام المطلوبة وتسيير شؤون المواطنين ومتابعة الملفات المعيشية والحيوية، فضلا عن إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع كل المعنيين بالشأن اللبناني خارجيا لعدم تضييع أي فرصة بفعل الأزمة السياسية الراهنة.
أما الانهيار، فيبدو أنه ما يزال يفرض نفسه متقدما على كل ما عداه، عبر تحريض سياسي مستمر وشحن طائفي يومي، وإستفزازات أمنية متبادلة، ومعاناة إجتماعية غير مسبوقة، ترفع من خطورة إنفلات الوضع في الشارع، إضافة الى إصرار البعض على تحميل الحكومة أكثر مما تحتمل، بعدم فصل الملفات الخلافية عن العمل الحكومي، لا سيما على المستوى القضائي، وكذلك تداعيات الأزمة اللبنانية ـ السعودية والخليجية الناتجة المستمرة والقابلة للتصعيد بسبب عناد وزير الاعلام جورج قرداحي الذي يطرح شعار “الكرامة الوطنية” متراسا لعدم تقديم إستقالته، فيما الكرامة الوطنية بفعل السياسات الارتجالية والخاطئة تنتهك على مدار الساعة إنسانيا ومعيشيا وإجتماعيا وماليا وصحيا وتربويا ونفطيا، في ظل أسئلة مشروعة يتناقلها البعض لجهة: كيف تسمح كرامة وزير أن يجلس على طاولة مجلس الوزراء وهو غير مرغوب فيه لا من رئيس الجمهورية ولا من رئيس الحكومة ولا من أكثرية الوزراء؟، وهل يريد أن يكون وزيرا بالقوة؟، وهل الكرامة التي يتحدث عنها أهم من كرامة مئات آلاف اللبنانيين المرتبطين بمصالح مع الخليج العربي؟، وهل هذه الكرامة تتحقق في حال وصل البلد الى الارتطام المدمر بفعل الضغط على “مكابح الحكومة” التي فرملت الانهيار بمجرد تشكيلها؟.
لا شك في أن ما يُبعد الكأس المرة عن اللبنانيين حتى الآن هو صبر الرئيس ميقاتي الذي ما يزال يفتش عن مخارج لائقة منسجمة مع الثوابت والمسلمات التي أعلنها مرارا وتكرارا، في وقت تقول فيه المعلومات إن الاتصالات لم تتوقف من أجل إعادة الانتظام السياسي وإستئناف العمل الحكومي لكن من دون نتيجة إيجابية حتى الآن، علما أن المراوحة في حال طال أمدها قد تكون قاتلة، وقد تؤجج الحرائق المشتعلة على إختلاف أنواعها فتأكل الأخضر واليابس!..
