انه المواطن الصالح.. جورج قرداحي
سعادة مصطفى أرشيد _البناء
أراقت الأزمة التي تسبّبت بها تصريحات الوزير جورج قرداحي حول عبثية الحرب السعودية على اليمن، لا كثير من الحبر فحسب، وإنما من هرمون الأدرينالين أيضاً الذي تدفق بغزارة في الأعصاب السعودية وتسبّب في إرهاقها وخروجها عن مألوف العمل الدبلوماسي.
لا داعي في هذا المقال لاستظهار واستذكار ما قاله الرئيس الأميركي السابق في خطبه الشعبوية من كلام مباشر حول السعودية، كان قد أسمعه للملك السعودي مباشرة، وهو كلام لا يقبل به أدنى الناس كرامة، والذي ابتلعته السعودية بخنوع وذلة، ودون أي ردّ فعل أو تعقيب، وكذلك ما صدر عن قادة كثيرين في العالم شاركوا الوزير قرداحي توصيفه لهذه الحرب، ومنهم الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتريتش .
فما الداعي لهذه الغضبة السعودية (المضرية) على لبنان وعلى الوزير جورج قرداحي؟ وعلى تصريح كان قد أدلى به في آب الماضي، وعندما كان صحافياً ومواطناً له أن يعبّر عن رأيه، وقبل أن يكون وزيراً؟ في تقديري أنّ للغضبة أسبابها، منها ما هو استرزاقي، عند أقلام مأجورة، وسياسيين فاسدين وتجار أزمات، وجدوا في صبّ الزيت على نار الخلاف السعودي اللبناني مصدر رزق، وفرصة ثمينة لاستثمارها مالياً، وليسوّقوا بضاعتهم الرخيصة إرضاء لمن يدفع وربما لمن قد يدفع، فشهروا أقلامهم للهجوم على الوزير قرداحي وعلى سيادة الدولة اللبنانية، وأطنبوا في الحديث عن مآثر مملكة الخير والتقدم والعدالة والحرية، التي سبق لها أن استدرجت صحافياً معارضاً إلى سفارتها في تركيا، وعذّبته، ثم قطعه رجال أمنها بأدوات وسكاكين جزار وتمّ شحن فتاته إلى الرياض في صندوق يحمل صفة الحقيبة الدبلوماسية، واعتقال ـ اختطاف رئيس حكومة لبناني في الرياض بعد استدعائه للتشاور، مملكة الخير هي التي تطعم ـ برأيهم ـ لبنان من جوع، وتؤمّنه من خوف «العدو» السوري أو الإيراني، وبالطبع لا من «إسرائيل» ولا من جماعات التكفير والإرهاب .
في أسباب السياسة، فإنّ السعودية لم يعد بإمكانها حالياً، أن تقدم على مزيد من عرض العضلات لتحدي إيران بالخليج، بعد أن تلقت وغيرها من الدائرين بالفلك الأميركي التعليمات بالتهدئة، فالولايات المتحدة منصرفة تماماً للتفرّغ للصين وبحرها وطرق حريرها، وهي لهذا السبب معنية بالعودة للاتفاق النووي الذي سبق لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق أوباما أن أبرمته مع إيران، والتموضع في بحر الصين الجنوبي، يتطلب منها بذل كامل طاقتها على الملف الصيني، وتهدئة جميع الساحات الأخرى ولو إلى حين، وفوق ذلك كله ترى الولايات المتحدة، أنّ أربعة عقود ونيّف من الحصار، تخللها قرابة عقد من الحرب الضارية مع العراق، لم تؤت أكلها وتفتّ في عضد إيران، لا بل اضطرت الإيراني للعمل على الاستعاضة عن الاستيراد باستنهاض قواه وإحداث نهضة شاملة في العلم والصناعة والزراعة والعسكرية، لهذا، استبدل السعودي عداء إيران المباشر بالهجوم على أذرع إيران في اليمن حيث تكثفت غاراته الجوية، وفي لبنان متخذاً من تصريحات الوزير جورج قرداحي حكاية لها أول ولكن ليس لها آخر .
وفي السياسة أيضاً، فقد استقرّ في ذهن ولي العهد السعودي، أنّ بإمكانه أن يكون سيد الجزيرة وملك العرب، على طريق حاول جده الملك عبد العزيز سلوكها، وهو يريد فرض زعامته على العالم العربي بأسره، وبشكل متغطرس وعدواني، وها هو يستغلّ هذه الأزمة مع لبنان لإعطاء دروس قاسية لكلّ دولة أو جهة أو حزب أو سياسي تسوّل له نفسه الاستقلال عن هذه الزعامة .
إنها لعبة خطرة، ولا أظنها تنمّ عن فطنة أو ذكاء، وهي مغامرة إنْ نجحت ـ لا قدر الله ـ واستطاع ولي العهد فرض زعامته الخطرة لا على لبنان والعالم العربي فحسب، وإنما على شعبها أيضاً، فلن تقف المطالب السعودية عند إقالة الوزير قرداحي، وإنما ستتدخل في من سيخلفه، وتحدّد من له الحق أن يكون وزيراً أو لا يكون، وبالطبع المقاومة اللبنانية ستكون على رأس استهدافاته، وهذه المغامرة إنْ فشلت فستكون فاتحة لسلسة من الهزائم المتتابعة، بدايتها من لبنان ولكنها عابرة لأنحاء مختلفة من العالم العربي، سبق للسعودية أن أشعلت فيها الحرائق ببترولها ومالها وزبائنها من المتكسّبين .
المواطن الصالح جورج قرداحي، مطالَب أنت بالثبات، فأنت أولاً مارست حقاً مشروعاً في التعبير عن رأيك بتوصيفك للحرب على أنها عبثية، وهو رأي يشاركك به ملايين الناس، وأنت ثانياً مطالَب بالدفاع عن سيادة لبنان وحقه في اختيار وزرائه، وممارسة سيادته على نفسه، الأمر الذي تحاول السياسات السعودية (العبثية) والخرقاء تمريغه بالوحل، والتي لا ينبري جماعة السعودية في لبنان للدفاع عن بلدهم في الهجوم البذيء الذي يتعرّض له، من قبل صحف سعودية محسوبة على العرش مثل صحيفة «عكاظ» .
المواطن الصالح جورج قرداحي، أنت بصمودك هذا تملك أن يكون لك شرف المساهمة في هزيمة مشروعهم البائس العبثي ومنطقهم الأعوج .
المواطن الصالح جورج قرداحي أصمد أمام كلّ الضغوط، وأهمّها تلك التي تأتيك من حيث لا تحتسب، ممن يفترض أن يشدّوا على أيديك، لا أن يعقدوا التسويات على حساب كرامة لبنان أولاً وكرامتك ثانياً .