الجوع والتخوين: مسارات العيش في شرق الفرات السوري
الكاتب: شفان ابراهيم
أصبح صراع المواطنين في شرق الفرات، صراع بقاء وسط الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، والدعاء بمضي أسبوع واحد فقط من دون أزمة معيشية جديدة، كفقدان المزيد من الموارد والخدمات والسلع الأساسية. والجوع تراجيدية تجعل العقل والفكر في حالة رفضٍ مطلق لأيّ طرح أو وعدٍ أو خيارٍ بديل، ويقحم الناس في حالة حقدٍ تجاه التسويف والوعود بمستقبلٍ أفضل، وترتفع درجة الكراهية والحقد لتصل إلى الاستعداد لفعل أيَّ شيء.
لا قوة تضاهي اتحاد قوة الجياع، فالبطون الخاوية لا تشعر بالأمان وإن وصل عداد القوات الأمنية والعسكرية إلى الملايين، وينظر الجائع إلى أيّ شخص في أي مكان تابع للسلطة على أنه شريكٌ في تجويعه، فتتوسع دائرة المعركة والشرخ المجتمعي. وهي الحالة التي تعود فيها الأنظمة الحاكمة إلى دفاترها القديمة لتطلق العنان للتهم والمؤامرة الخارجية والأعداء المتربصين بالأمة، ونلاحظ حدّية الإدارة الذاتية ومختلف التشكيلات السياسية والأمنية الأخرى في التعامل مع المختلفين برؤاهم السياسية والفكرية للمبررات التي يسوقونها عن أسباب الجوع والفقر، كحال ثقافة ألسنة الإدارة الذاتية التي تتهم الآخرين بالخيانة والعمالة بسبب مقالةٍ أو تعليق على منشور فايسبوكي. وينطلق هؤلاء من مدخل مشترك يجمع الجماهير والإعلام والسياسيين، مفاده أن هؤلاء الذين يكتبون أو يتحدثون خارج السياقات المرسومة، إنما يحملون حقداً تشويهياً لمنجزات الإدارة الذاتية، فيما لا شيء يهدم الأنظمة السياسية مثل الفساد وإلغاء الآخر.
وتبدو وسائل التواصل الاجتماعي انعكاساً واضحاً لاحتقان الشارع إزاء الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية. وينقسم السوريون في شرق الفرات في انتمائهم وولائهم إلى مجموعة من الشرائح، الإدارة الذاتية، الحكومة السورية، المجلس الكردي، وغالبية مستقلة تظهر عبر المواقف ووسائل التواصل الاجتماعي وهي ارتضت العيش بعيداً من العمل الحزبي المنظم، أو الانخراط المباشر في الحياة السياسية، لكن الغالبية المطلقة من كل تلك الشرائح مضطرة للتعامل اليومي مع مؤسسات الإدارة الذاتية، المتحكمة في مختلف مجالات الحياة، مقابل غياب أيّ بارقة أملٍ في التغيير والتخطيط الإداري والتنموي. ومع فقدان الناس أبسط مقومات معيشتهم، فإن الأسباب المشجعة على البقاء في هذه البلاد تقترب من الصفر، بخاصة أن المجتمع الكردي المحلي وفقاً للرصد والمتابعة، ما عاد مهتماً بنجاح الحوار الكردي- الكردي من عدمه، بقدر تفكيره بتوفير مستلزمات الحياة والعدل والكرامة.
زاد الأمور تعقيداً تهديد الإدارة الذاتية المزارعين وأصحاب المشاريع الزراعية بقطع الكهرباء عن مشاريعهم، ومع ضعف الموسم الزراعي في العام الماضي، وحتمية فشله في العام الحالي في حال مُنعت الكهرباء عن الأرياف والري، فإن شرق الفرات مُقبل على مجاعة حقيقيّة.
ثمة علاقة متعارضة دوماً بين الجوع والسُلطة، فلا الجائع قادر على الدفاع عن وطنه، ولا السلطة تستطيع إجبار الفئات الاجتماعية على الدفاع عن ظلم الوطن وسُلطته، لتصبح العلاقة بين الطرفين متنافرة. ينتظر الجائع أدنى فرصة للتعبير عن رفضه ما يحصل، والسُلطة تستمر في خشيتها على نفسها من شعبها. إلا أن شلال الجوع وإن كان يُعبر عن نفسه ببطءٍ وخوف، لكنه في لحظة ما ينطلق غير آبه بما سيخلفه تمرده ورفضه من دمار وخراب. الأقانيم الاقتصادية المحلية غنية جداً بمواردها المالية، لكن السرقة والفساد والنهب المنظم التي تحولت إلى ثقافة وجزء من هويّة هذه الإدارة، أصبحت شيئاً فشيئاً مارداً عملاقاً لا تمكن السيطرة عليه، بخاصة مع الحصانات التي تتمتع بها النُخب الفاسدة المتسببة بهدر مليارات الدولارات التي كانت كفيلة بتحسين ظروف المنطقة. والجياع إذا أرادوا يستطيعون خلق توازن جديد، لا يمكن تكهّن نتائجه وانعكاساته على الإدارة وعلى المجتمع أيضاً.
إن هدم الإدارة الذاتية، ليس الحل المأمول أو الأفضل، لكن استمرار قادتها بهذه العقليات يخدم أطرافاً تكن العداء والحقد للمكونات، منها من هو حاقدٌ على الكُرد لأسباب تاريخية أو سياسية. فيما يحقد آخرون على جميع المكونات المجتمعية المنضوية في الائتلاف السوري المعارض، وبذلك فإن التفاضل والمقاربة التي تطلقها الإدارة الذاتية حول رضوخ الأهالي لها بشكلها الحالي، أو اختيار البديل ما بين سيطرة تركيا، أو قوات الحكومة السورية، وعدم قدرة المجلس الكردي على إدارة البلاد بمفرده، هذا الحل الذي تُلوح به الإدارة الذاتية لا يخرج عن فكرة “القبول الخانع والرضا غير المشروط والتأقلم”.
لا يزال الحديث السياسي للإدارة الذاتية وألسنتها الشعبية والرسمية، يدور في فلك أن الدعوة إلى الحريات والعيش الكريم، والمساواة، والعدالة وتوزيع الثروة، هي ديناميات الأطراف المتآمرة على تجربة الإدارة الذاتية، بالقول إن المعارضين ليسوا سوى امتداد لقوى خارجية تسعى إلى الفوضى وزعزعة الأمان والنيل من شمال شرقي سوريا.
في المحصلة، ما عادت التسميات مهمة، بقدر خلق ظروف الاستقرار، فلو أطلق على هذه المنطقة اسم كردستان الكبرى، كردستان سوريا، روج أفا، شمال شرق سوريا، شرق الفرات. كُلها تتراجع إلى المرتبة الثانية أمام الأساس الرصين لخلق أيّ كيان حقيقي، فلا وطن ولا مواطنة ولا فائدة للتسميات من دون العدالة والانفتاح والانتماء وكرامة العيش. أما البقية فمجرّد فقاعات إعلامية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع