لبنان ساحة تنافس بين حلفاء واشنطن على ما بعد انسحابها
ناصر قنديل-البناء
– يمكن النظر للمشهد المرافق للأزمة السعودية- اللبنانية، بعيداً من حالة الهلع التي ينظر بها الكثير من اللبنانيين تجاه التصعيد السعودي ضد لبنان، وهو هلع لا يلقى جوابه في السياسة، بل تحتاج معالجته إلى مناخ من الهدوء السياسي لنقاش أعمق لأزمة النظرة السلبية المبتادلة بين شعوب ونخب البلدين لبعضهما البعض بعيداً من السياسة، حيث الغالبية السعودية الشابة والمتعلمة والناشئة تنظر للبناني عموماً، الموالي للسعودية والمعارض لها، بصفته انتهازياً عينه على المال السعودي، أو حسود يستكثر على السعوديين ثرواتهم، والغالبية اللبنانية عموماً، الموالية للسعودية والمعارضة لها، لا تخفي نظرة تعالٍ وعنجهية ومزاعم تفوق تصل حد العنصرية، نحو شعوب الجزيرة العربية عموماً، والحجاز ونجد بصورة خاصة، سواء سميت بالسعودية أم لا، وتشبه الأزمة في خلفيتها العميقة بعض جوانب الأزمة الأعمق من السياسة بين لبنان وسورية.
– المشهد يمكن النظر إليه بعيون تراقب التطورات الإقليمية والدولية، التي تغير فيها موقع سورية مع انتصارها العسكري والسياسي، والذي يقارب تحقيق حلقات نوعية حاسمة في الشمال خلال هذه الأيام، فلم يعد ثمة فرص لرهان يمنح السعودية نوعاً من الحضور في المعادلة السورية، كانت تمثله في الماضي رموز في مواقع متقدمة لقيادة الدولة السورية، وقد سقط هؤلاء وسقط من بعدهم كل الذين مولتهم ودعمتهم السعودية ليصنعوا لها حضوراً أوسع مما كان، والحصيلة اليوم أن السعودية عائدة إلى مصالحة سورية مرتضية العودة بخفي حنين، أما في العراق حيث إغراء الدول البديل، تعرف القيادة السعودية أن المعروض عليها هو حضور إعلامي يحسب عليها ويطلب منها تمويله، يرهن بقاءه وزواله بمصير البقاء أو الانسحاب الأميركي، وسط ترجيح الانسحاب، والموقف السعودي لتذكير من خانته الذاكرة، كما كشفت الوثائق التي نشرتها مجلة “التايم” الأميركية في آب 2003 عن لقاء الملك عبدالله بن عبد العزيز بالرئيس الأميركي جورج بوش، يختصر باعتبار أن مسار العراق الطبيعي معاكس لأي نفوذ سعودي وازن فيه بحكم تركيبته الطائفية، وأن مطلب السعودية لتعويض خسارة العراق الآتي حكماً، هو بوضع اليد على سورية، حيث التركيب الطائفي يسمح للسعودية بالرهان على استتباعها، وها هو الرهان يسقط، بلا رجعة ولا أمل بالتعويض، بينما اليمن الذي شنت السعودية الحرب عليه في قلب التحضيرات لإبرام الاتفاق النووي مع إيران، بصفته حصة السعودية لتعويض الخسائر الاستراتيجية والسياسية السعودية الناجمة عن توقيع الاتفاق النووي، صار بذاته خسارة سعودية كبرى تقترب من الاكتمال، ويفترض البحث عن تعويض بديل لخسارته الشاملة، ولم يبق إلا لبنان، الذي فشلت كل الأدوات التي مولتها السعودية بحجز مقعد لها في رسم مستقبله، فقامت بفتح أزمة كبرى تجعل أي ترتيب مستقبلي للبنان مشروطاً بالعبور من الرياض.
– كما هي حال السعودية، حال فرنسا التي اسقطت من يدها كل فرص الانفتاح على سورية من بوابة التعاون الأمني وقضية النازحين، على رغم الفرص والدعوات الروسية المتكررة، لمسار تقوده باريس يشبه مسار أستانة، الذي انضمت إليه تركيا حليفة فرنسا في الحرب على سورية، وأضاعت فرنسا فرصها أملاً بتبدل أميركي نحو الهجوم يمنحها فرصاً تنسجم مع شعارات الحرب وخططها، ولم تحصد سوى الخيبة، وها هي تخرج من أفغانستان من دون أن تستشار كما قال وزير خارجيتها جان إيف لودريان، وتخرج من صفقات السلاح مع أستراليا بقرار أميركي من دون تشاور، على رغم جائزة الترضية المعنوية اللاحقة بالكلام عن “أحمق من لا يشارك فرنسا”، وهي شهادة لا تسمن ولا تغني من جوع، والحضور الفرنسي في العراق يتم تحت العباءة الأميركية ومرتبط ببقائها، وفي ليبيا تواجه فرنسا تحدياً تركياً لا تلقى في مواجهته أي عون من حلفائها التقليديين، وقدرة فرنسا على حجز حصة من عائدات أسواق الخليج ومصر، حيث النفوذ الأميركي يأتي أولاً، مشروط بحجم الرضا الأميركي، الذي أظهرت تجربة أستراليا أنه لا يؤتمن، فيلتمع اسم لبنان كنقطة حضور وحيدة واقعية، يمكن للأميركي التسليم بخصوصية فرنسية فيها، بخلاف العراق وليبيا كمناطق نفوذ بريطانية تقليدية.
– يرد السؤال ماذا في لبنان، وينكر جميع المعنيين لدى سؤالهم أن يكون في لبنان ما يهمهم غير الخير لشعبه، لكن السياسة لا تبنى على العواطف، ففي لبنان، هذا البلد الصغير، ما يهم “إسرائيل” التي تشكل نقطة الاهتمام الأميركي الأولى، وأمن “إسرائيل” يكاد يكون بيد لبنان عبر مقاومته العظيمة، وسيزداد هذا الحضور للبنان من هذه الزاوية ما بعد الانسحاب الأميركي المقبل من المنطقة، وفي لبنان ثروة نفط وغاز مقدرة بتريليون دولار لمن لا يعلم، ومشاريع إعادة إنماء في الكهرباء والبنى التحتية وسكك الحديد بمليارات الدولارات، وفي لبنان أمن المتوسط، ومستقبل النازحين، والصراع الدائر حول كرسي إقليمي حاسم يمثله لبنان، يدور بين منهج الرهان على احتواء المقاومة عبر قبول التساكن، وبين امتلاك الضغط عليها ومحاولة إضعافها وإشغالها وإخضاعها، ونقطة الترجيح عن الأميركي ستبقى “إسرائيلية “، والكل عند ربط نزاع، بينما المتغيرات المتسارعة آتية من أمكنة غير متوقعة.