أحمد فؤاد

على امتداد سنوات قليلة، وهي في حسابات التاريخ اللا شيء على الإطلاق، زُرعت المملكة العربية السعودية، بشكلها الحالي، كخنجر مسموم في الخاصرة العربية، قبل سنوات فقط من وضع الشقيق الصهيوني الآخر في أرض فلسطين، ليتوج البريطانيون خطط ما قبل الخروج من المنطقة العربية، كي لا تقوم لها قائمة في أجل قريب.

الوجع العربي منذ قيام الكيان السعودي، يمكن رد معظمه إلى أصل النشأة الإنجليزية وفوائض البترول الهائلة، التي دخلت إلى المنطقة لتعزيز وجود الأسرة السعودية كفاعل ثانٍ بين الشعوب العربية – خلف وبموازاة الكيان – بجانب فرض سيطرتها على أقدس الأماكن الإسلامية، ما أتاح لها التغلغل ببطء أحيانًا، وخشونة في أحيان أخرى، ضد كل حركة مقاومة ضد الوجود الأميركي أو الكيان الصهيوني على الأرض العربية، منذ عصر القومية في منتصف القرن الماضي، مرورًا بالمقاومة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات، وصولًا إلى حزب الله اليوم، الكل سيبقى عدوًا لآل سعود، طالما كان يحاول الوقوف بوجه الاحتلال أو السيطرة أو يولي وجهه شطر فلسطين.

كان آل سعود، ولا يزالون، العقبة الأولى في صياغة عصر عربي جديد، قادر على مواجهة التحدي الصهيوني والتجبر الأميركي. ومن سوء حظ الشعوب العربية وجود هذا الكيان الرجعي، وعليه درع الحماية الأميركية من جهة، وفي يده سيف المال من جهة أخرى، ليمزق كل محاولات صناعة مفردات جديدة تستجيب للتحديات الهائلة من معدن صلب، هو معدن الإيمان، القادر على اكتشاف الطريق إلى فلسطين وإلى تحرير العربي نفسه من عصور الهوان والرجعية والاستتباع للغير.

في مثل هذه الأيام من العام 1956، كان العالم العربي كله يخوض معركة العدوان الثلاثي، كل عامل في كل ميناء عربي، وكل مواطن في قلب عاصمة عربية، كان يقدم الدعم لمصر التي تعرضت لضربة من بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، الكل كان مشاركًا فاعلًا في كسر المعتدي وطرح حقيقة جديدة مفادها أن الأرض العربية لها من يدافع عنها، وأن الهجوم على جزء هو هجوم على الكل.

جاءت أشرف وأعظم المواقف من قلب العروبة النابض، دمشق، وعلى يد عبد الحميد السراج مدير المخابرات العسكرية السورية، بنسف خط الأنابيب المغذي لأوروبا، والقادم من الخليج، ليتوقف ضخ بترول الشرق الأوسط تمامًا، وتغرق بريطانيا التي كانت إمبراطورية عظمى في الفوضى والتوتر، ويزيد المناخ المشحون عالميًا ضد قوى العدوان إلى أقصى مدى ممكن، وتساهم في تحرك الاتحاد السوفياتي فيما بعد لإصدار إنذار بولجانين الشهير، والتهديد العسكري بضرب لندن وباريس نوويًا.

وعلى أمواج البحر المتوسط، كان ضابط البحرية السوري جول جمال يكتب بجسده النازف حلقة جديدة في أسطورة انتصار الدم على الجبروت العدواني الأوروبي، ويحول المدمرة جان بارت، فخر البحرية الفرنسية، إلى ركام، ومع الشظايا المتناثرة على أمواج المتوسط، افتتح ابن الجيش العربي السوري فصلًا جديدًا من قصة الصراع على الشرق الأوسط، وفيه، لم يصبح العربي بعدها مفعولًا به وفقط، وارتقى إلى مرتبة الأيقونة الخالدة في الضمير العربي.

في كل قصص الصمود البطولي الذي ميز الانتصار العربي الكبير في 1956، لن تجد موقف رسمي سعودي واحد قد يحسب لصالح أشقائهم الذي دفعوا ضريبة الدم والمواجهة في وجه عدو الجميع. كان آل سعود يكتبون من جديد أحد فصول الوقوف في الخندق الصهيوني، إن أمكن بالدعم أو بالتثبيط المستمر لهمم الرجال. وفي النهاية، ساعدت المملكة السيد الأميركي على العودة للمنطقة، وبدأت في دور بوق الدعاية ضد السوفيات وجمال عبد الناصر، ودفعت ملايين الريالات لفصم عرى أول وحدة عربية بين دمشق والقاهرة (1958-1961).

في أغلب الحالات كان التدخل السعودي يجري بمخدر الوهم والمال، كما في حالة مصر مثلًا، التي أدركت عائلة آل سعود أنها أكبر من الابتلاع أو الاستعداء، حتى بعد فترة الستينيات والمد القومي، فيما كان العمل في سوريا أكثر عنفًا، وبالسلاح، ورفعت السعودية شعار الجراحة الواجبة لتمرير ما تعتقد أنه أوضاع جديدة تمنحها الوجود والتأثير المطلوب، منذ 2011 وحتى اليوم.

بينما في لبنان، والذي يواجه عدوانًا ثلاثيًا جديدًا، قوامه الأميركي وعقوباته وأتباعه، والصهيوني المنتظر جنوبًا أول فرصة للانقضاض، ضمت السعودية صفوفها إلى أشقائها الحقيقيين لتلقي بكرة النار على البنزين، وتستغل موقفًا قديمًا لمحاولة إشعال الجبهة التي عجز أسيادها عن اختراقها، وهي تلعب باقتدار دورها المفضل طوال سني وجودها السوداء، دور الخنجر الجاهز للطعن من الخلف، دور الغدر والخيانة.

رسالة السعودية ليست إلى لبنان وحده، هي رسالة إلى السيد الأميركي عقب السقوط الرهيب في اليمن، أن ابن سلمان قادر على خدمة المخططات الأميركية والصهيونية، ولديه الاستعداد الكامل، ويملك إرادة السير خلف واشنطن وتل أبيب إلى النهاية.

تحارب المملكة العربية السعودية بشارات النهاية الحتمية للوجود كله، في شخص وزير إعلام لبنان جورج قرداحي، وتحشد بحماس وهمة بالغين كل ما أمكنها حشده ضد شخص، ترى فيه هدفًا لتركيع لبنان كله أولًا، ثم زيادة حدة الفتنة الداخلية التي يواصل نواطير الأميركي النفخ فيها ليل نهار، ومحاولة كسب أرضية جديدة، بعد أن انتزع اليمن الهيبة والسطوة والحضور السعودي.