سبب جديد يضاعف مأساة لبنان: تضخّم عالمي في الأسعار
منذ منتصف العام الحالي، تشهد الأسواق العالميّة تضخّماً سريعاً في أسعار مختلف السلع الغذائيّة الأساسيّة والمواد الأوّليّة: من النفط ومشتقاته، إلى الحبوب والخضار والفاكهة وسائر المواد الغذائيّة، وصولاً إلى الحديد ومختلف أنواع المعادن.
تقرير البنك الدولي الأخير الذي صدر منذ أيام بعنوان “آفاق أسواق السلع الأوليّة”، توقّع استمرار هذه الضغوط التضخميّة في الأسعار حتّى نهاية العام، مع احتفاظ الأسواق بمستويات الأسعار المرتفعة خلال النصف الأوّل من العام المقبل. وهذه الظاهرة، وفقاً للتقرير، ستترك آثاراً شديدة السلبيّة على الدول التي تعتمد على الاستيراد لتأمين هذه السلع، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار بعض المواد إلى مستويات لم يشهدها العالم منذ أكثر من عقد.
لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليدرك خطورة هذه التطوّرات على مستقبل الأزمة اللبنانيّة. فلبنان لطالما كان من الدول الشديدة الاعتماد على الاستيراد لتأمين اكتفائه الذاتي في جميع المجالات، بما فيها الحصول على حاجات المقيمين الاستهلاكيّة من المحروقات والغذاء والمواد الأوليّة. وأي تضخّم عالمي في أسعار هذه المواد، سيقابله ارتفاع موازي وبالنسبة نفسها في حجم العملة الصعبة المطلوبة لتمويل الاستيراد. وإذا كان شح الدولارات وتداعيات هذا الشح على سعر صرف العملة المحليّة هو أحد وجوه أزمة لبنان الحاليّة، فمن الأكيد أن ما تشهده الأسواق العالميّة سيفاقم من آثار الأزمة الماليّة والنقديّة اللبنانيّة.
ومع دخول البلاد في حقبة رفع الدعم عن استيراد السلع الأساسيّة، سيترك ارتفاع أسعار المحروقات والغذاء العالميّة آثاراً مضاعفة على مستويات التضخّم المحليّة، خصوصاً أن المستهلك اللبناني سيحتاج اليوم إلى سداد فاتورة استيراد هذه السلع المتضخّمة وفقاً لقيمة الدولار الفعليّة، لا قيمته المدعومة من مصرف لبنان كما كان يجري سابقاً.
أسباب التضخّم العالمي في الأسعار
لا يمكن فهم ما يجري على مستوى أسواق العالم اليوم، ومن ثم فهم تداعياته على الساحة اللبنانيّة، من دون مراجعة الظروف والعوامل التي أدّت إلى هذه التطوّرات. فخلال العام الماضي، شهدت الأسواق العالميّة ركوداً كبيراً نتيجة تفشي وباء كورونا، وتراجعاً في مستويات الطلب على السلع الأساسيّة بمختلف أنواعها، وخصوصاً مع اتخاذ الكثير من البلدان الصناعيّة قرارات قضت بالإقفال الشامل أو فرض قيود معيّنة على الحركة. ولهذا السبب، تراجعت مستويات إنتاج العالم للسلع الأساسيّة، وتم إلغاء الكثير من العقود الاستثماريّة التي كانت تذهب في منحى زيادة الإنتاج.
لكن مع بداية هذا العام، بدأت الحركة تعود تدريجياً إلى الأسواق، وعادت مستويات الطلب على السلع والخدمات إلى الارتفاع بالتوازي مع الخروج من حقبات الإقفال الشامل والقاسي. لكن في المقابل، لم تشهد معدلات الإنتاج العالمي وسلاسل توريد السلع الأساسيّة القدر المطلوب من الانتعاش لمواكبة هذا الارتفاع في الطلب، لكون زيادة الإنتاج وتعزيز سلاسل التوريد غالباً ما يتصلان باستثمارات وازنة وتخطيط مسبق. باختصار، لم يواكب العرض الموجود الارتفاع السريع والمفاجىء في الطلب على هذه السلع، وهو ما دفع الأسعار العالميّة، وخصوصاً أسعار السلع الأساسيّة، إلى الدخول في حقبة من التضخّم المفاجىء والسريع. ولهذا السبب أيضاً، توقّع تقرير البنك الدولي أن تستمر هذه الضغوط التضخميّة على المدى القصير.
من الناحية العمليّة، أشار التقرير بوضوح إلى مخاطر هذا التضخّم بالنسبة إلى البلدان التي تعتمد على استيراد هذه السلع، كما هو الحال بالنسبة إلى لبنان، وهذه المخاطر من شأنها –حسب التقرير- أن تهدد حتّى قدرة هذه البلدان على استعادة معدلات النمو الاقتصادي التي تستهدفها، في مرحلة التعافي من آثار تفشي الوباء. لا بل أشار التقرير في عدة أماكن إلى أن معدلات التضخّم هذه سيكون من شأنها تهديد الأمن الغذائي لهذه البلدان.
وإذا كان التقرير لم يشر إلى خصوصيّة الواقع اللبناني بوضوح وآثار هذه الظاهرة عليه، فمن الطبيعي أن يتوقّع المرء فداحة آثار هذه التطورات في الحالة اللبنانيّة بالذات، وتحديداً في ظل تقاطع عدّة أزمات نقديّة وماليّة قادرة على مفاقمة نتائج هذا التضخّم.
أثر ارتفاع أسعار المحروقات على لبنان
تشير أرقام الجمارك اللبنانيّة إلى أن كلفة استيراد المحروقات بلغت خلال العام الماضي حدود 3.24 مليار دولار، وهو ما يوازي وحده نحو 29% من قيمة السلع التي استوردها لبنان خلال ذلك العام. بالتأكيد، من المتوقّع أن تشهد كميّة المحروقات المستوردة نسبة كبيرة من الانخفاض، نتيجة ارتفاع أسعار هذه المواد محليّاً بعد رفع الدعم، وتوقّف عمليات التخزين والتهريب. لكن انخفاض كمية المحروقات المستوردة لن يعني بالضرورة خفض حجم الدولارات الإجمالي الذي تستنزفه عمليّة استيراد المحروقات، خصوصاً إذا ارتفع سعر المحروقات بالدولار الطازج في السوق العالميّة.
فمن ناحية الأسعار العالميّة، تشير الأرقام إلى أن متوسّط سعر برميل النفط ارتفع خلال هذا العام بنحو 70%، ليبلغ حدود 80 دولاراً للبرميل، وهو ما سيرفع كلفة الحصول على كل برميل من المشتقات النفطيّة بالدولار الطازج بهذه النسبة. ولهذا السبب، من المتوقّع أن ترتفع فاتورة استيراد المحروقات الإجماليّة بالدولار الأميركي بالنسبة إلى لبنان، حتّى لو انخفض حجم استيراد البلاد لهذه السلع. أما النتيجة الحتميّة، فهي زيادة الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، كون الحصول على الدولارات المطلوبة لاستيراد المحروقات يتم من السوق الموازية لا من احتياطات مصرف لبنان، بعد أن تم رفع الدعم عن هذه المواد. وأي ارتفاع في فاتورة استيراد المحروقات، سيعني زيادة قيمة الدولارات التي يتم امتصاصها من السوق الموازية لاستيرادها.
بالنسبة إلى العام المقبل، يتوقّع البنك الدولي أن يستمر الارتفاع العالمي في متوسّط برميل النفط، وهو ما سيعني استمرار الارتفاع في كمية الدولارات التي يستنزفها استيراد المحروقات بالنسبة إلى لبنان.
ارتفاع أسعار سائر السلع الأساسيّة
سائر السلع الأساسيّة والغذائيّة شهدت بدورها ارتفاعات قياسيّة في أسعارها، وهي ارتفاعات لم يشهدها العالم منذ العام 2011. وهذا التضخّم سيفاقم من أزمة الطلب على الدولار في السوق الموازية اللبنانيّة، لتمويل استيراد هذه السلع. فعلى سبيل المثال، تشير الأرقام إلى أن أسعار السلع الغذائيّة والزراعيّة ارتفعت خلال العام 2021 بنحو 22%، وهذه السلع لن تشهد خلال العام المقبل إلا انخفاض طفيف جدّاً في أسعارها، حسب توقعات البنك الدولي. أما أسعار المعادن، التي تؤثّر بدورها على جميع المصنوعات التي تدخل المعادن في تركيبتها، فارتفعت خلال هذا العام بنسبة 48%، فيما لا يتوقّع البنك أن تشهد انخفاضاً يتعدى حدود 5% في أسعارها. باختصار، وبما أن كلفة المحروقات تؤثّر بشكل مباشر على كلفة جميع السلع الأساسيّة الأخرى، ارتفعت أسعار هذه السلع بالتوازي مع الارتفاع الذي حصل في سعر برميل النفط هذا العام.
أخطر ما في حالة لبنان، هو أن الارتفاع في كلفة الاستيراد نتيجة ارتفاع الأسعار العالميّة لا يتوازى فعلياً مع أي زيادة في كمية الدولارات التي تتدفّق على السوق الموازية. فأزمة النظام المصرفي لا تسمح اليوم باستقطاب أي تحويلات خارجيّة. ومفاوضات لبنان مع صندوق النقد، التي يفترض أن تمهّد للإنطلاق في مسار التعافي، تحول دونها صعوبات وتعقيدات كثيرة، أبرزها التعثّر الحاصل اليوم في عمل الحكومة. كل هذا المشهد لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى سعر صرف الليرة اللبنانيّة.