الحدث

الولايات المتحدة متوقفة عن “تنظيم شؤون” الشرق الأوسط!

جو بايدن

لم يكن المشهد المذل للانسحاب من أفغانستان هو الدليل الوحيد على السياسة المرتبكة والتناقض بين الأقوال والأفعال للولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا، فتقدّم الأحداث وتسارعها يُنذر بأن شيئاً في السياسات الخارجية الأمريكية واستراتيجياتها على وشك التغير والتبدّل.

وتشير مراكز صنع القرار في واشنطن الى مجموعة مؤشرات لهذا التغيّر الذي بدأ يظهر مؤخراً على كافة الساحات ويرسم معالم جديدة في منطقة الشرق الأوسط:

 فشل أمريكي في احتواء إيران

_ أولاً، مع الخصم الذي تعتبره واشنطن الأخطر على مصالحها في المنطقة وهي إيران، فإن إدارات البيت الأبيض المتعاقبة فشلت فيما تسميه “كبح” البرنامج النووي الإيراني، ولم تستطع منع الجمهورية الاسلامية من تخصيب مادة “اليورانيوم”، وكان آخر الادعاءات الأمريكية والإسرائيلية ان إيران صارت قريبة جداً من القنبلة النووية، ومنها تصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن منذ شباط الماضي “ان إيران ربما تكون على بعد أسابيع من امتلاك مواد لسلاح نووي” حسب قوله.

 وبعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، يسعى اليوم الرئيس الحالي جو بايدن الى استعجال التفاهم مع إيران والعودة الى الاتفاق النووي، لكن العودة لن تكون الا بشروط الجمهورية الإسلامية، وهو ما سيكلّف إدارة بايدن الكثير من التنازلات امام هذا الخصم القوي، لا سيما مع اعتبار واشنطن ان النفوذ الإيراني آخذ في التوسع في المنطقة دون القدرة على الحد منه، وبحسب مقال لمركز مالكوم كير-كارينغي الأمريكي للشرق الأوسط فأن “محاولات الولايات المتحدة لاحتواء الجمهورية الإسلامية باءت بالفشل، فقد اتّسعت رقعة نفوذ إيران في الشرق الأوسط على الرغم من خضوعها للعقوبات طيلة عقود”.

“مارشال” مصغّر في لبنان!

_ ثانياً، تعجز واشنطن وسفارتها في لبنان عن إيجاد فتنة في بيئة حزب الله، ومواجهته من داخل ساحته، فلا العقوبات الاقتصادية ولا الحصار الذي كسره الحزب  عبر استقدامه المشتقات النفطية من إيران قد نجح، بالإضافة الى سوء إدارة السفيرة دوروثي شيا للصراع الأمريكي ضد حزب الله، وخاصة بعد القرار المتسرع  إثر خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، حيث أنّبتها عليه إدارة البيت الأبيض، وهو السماح للدولة اللبنانية استجرار الغاز المصري عبر سوريا، ما كلّف الولايات المتحدة تنازلاً واضحاً في قانون العقوبات “قيصر”، ويضيف مركز مالكوم كير- كارينغي، ان الكونغرس قد يوافق على بعض “الإعفاءات من العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد من أجل تسهيل التوصل إلى اتفاقية مع لبنان حول الطاقة”.

بدوره، يشير مركز كارنيغي الى “ان أعضاء جمهوريين في الكونغرس الأميركي اتهموا إدارة الرئيس جو بايدن بأنها حجبت تقريرًا عن إمبراطورية حزب الله المالية، تمهيدًا لدرس احتمالية رفع العقوبات الاقتصادية عن لبنان، وان أحد أعضاء وفد الكونغرس الذي زار بيروت في أيلول الماضي قال “لا أستبعد خيار تطبيق مشروع مارشال مصغَّر من أجل لبنان، لأن مصالح الأمن القومي الأميركي تقتضي ذلك”. (“مارشال” هو قانون دولي وضعه جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأميركي لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب عام 1947).

وكذلك فشلت السفيرة الامريكية وأدواتها التي جنّدتها من تحريك الشارع اللبناني طائفياً، وبهذا تكون سياسات الضغط الأمريكي لم تؤت نتائجها في لبنان، وقد كان حزب الله سداً منيعاً أمامها. فيما تحاول الولايات المتحدة لعب أوراقها الأخيرة حتى فترة الانتخابات النيابية في تفكيك تحالفات حزب الله مع القوى السياسية، خاصة الشيعية والمسيحية، ومحاولة دعم ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية لإحداث خروقات لصالح واشنطن في البرلمان اللبناني.

سوريا:

_ ثالثاً، ربطاً بلبنان انسحبت التحولات الى سوريا عبر “غضّ الطرف” الأمريكي عن “قيصر” وعن الزيارات العربية والدولية التي تتوافد الى دمشق بهدف إعادة إحياء العلاقات التي ضغطت الولايات المتحدة لقطعها أيام بدء حربها على البلد عام 2011، ولكنّ المتغير الأهم هو استهداف محور المقاومة بشكل مباشر وصريح للقاعدة الامريكية “التنف”، مقر واشنطن الاستراتيجي في المنطقة، ففهمت إدارة البيت الأبيض ان قواتها تعُد أيامها الأخيرة في سوريا، ما يعني فشلاً مدوياً لكل تمويلاتها وأدواتها لقيادة الحرب طوال عقد كامل ومحاولة الإطاحة بالرئيس بشار الأسد.

العراق: انصراف اهتمام واشنطن

_ رابعاً، التحول الأمريكي الكبير يكمن في الساحة العراقية، البلد الذي لطالما تغلغل النفوذ الأمريكي في كل مفاصله منذ الاحتلال عام 2003، الا ان مؤشرات الحركة الامريكية الأخيرة تشير الى انصراف واشنطن عن العراق ظاهرياً، خاصة بعد استحقاق الانتخابات النيابية، وبسبب سخط العراقيين من الوجود الأميركي والتدخل المستمر في السياسات الداخلية لبلادهم.

بعد أمريكا: لعبة نفوذ عربية

_ خامساً، مع تمهيد الولايات المتحدة لانسحاب قواتها من العراق وسوريا نهاية العام الحالين وفي ظل توقّف الولايات المتحدة عن تنظيم شؤون الشرق الأوسط حسب مراكز دراسات اميركية، تعمد الدول العربية إلى جمع أوراقها لخوض لعبة نفوذ خاصة بها على المستوى الإقليمي، بحسب ما يؤكد المركز الأمريكي للشرق الاوسط، كما تشارك هذه الدول لإحلال نوع من “السلام البارد” في المنطقة.

عدم القدرة الامريكية على تعيين مسؤول للشرق الأوسط

_ سادساً، وهو المؤشر الأهم الذي يظهر الارتباك الأمريكي وخاصة لدى الحزب الديمقراطي، من التعامل مع سياسات الشرق الأوسط، هو عدم قدرتها حتى اليوم على اختيار مسؤول جديد عن منطقة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الامريكية، فان كل اسم يقترح لهذا المنصب يُجمّد لأسباب عديدة، وتشير مجلة “بوليتيكو” الامريكية الى ان أعضاءً في الكونغرس تثيرهم مخاوف من سياسة بايدن في الشرق الأوسط.

فلسطين المحتلّة:

_ سابعاً، تجدر الإشارة الى تراجع ملحوظ في دعم بايدن لسياسات الكيان الإسرائيلي في الساحة الفلسطينية، فالرئيس الأمريكي لم يضع مخاوف الكيان ضمن أولوياته بحسب اعترافات الأوساط الإسرائيلية منذ زيارة رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت الى واشنطن، كما ان بايدن يدعي التوصل الى تهدئة، وعدم تأييد توسيع الاحتلال لبؤر الاستيطان في الضفة الغربية المحتلّة، وكذلك الانقسام الواضح بين قطبي الحزب الديمقراطي على خلفية تمويل القبة الحديدية الاسرائيلية.

كل هذه المؤشرات تُنبئ بمرحلة جديدة يدخلها الشرق الأوسط، ويتقلص فيها تدريجياً الدور الأميركي!


الكاتب: غرفة التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى