الانتفاضة اللبنانية… قدور اللحم وحرّيّة الصحراء…
كيف نقرأ دلالات كلًّ من هذه المشهديّات الثلاث؟ لقد أُخذ على هذا الشعب أنّ ثورته ليست بثورة. فالثورات «الحقيقيّة» هي التي تحقّق تغييراً راديكاليّاً عبر الاقتلاع العنفيّ للمنظومة السياسيّة القائمة، كما إبّان الثورتين الفرنسيّة والبلشفيّة. لكنّ الذين أطلقوا مثل هذه الآراء غفلوا عن أنّ ثورة 17 تشرين كانت، بالدرجة الأولى، ثورةً على الذات. وتناسوا أنّ لاعنفيّة هذه الثورة كانت مرآة اقتناع عميق لدى الناس بأنّ التغيير ممكن بالطرق السلميّة. ربّما يعكس هذا الاقتناع سذاجةً ما حيال دمويّة المافيا التي تهيمن على البلد. لكنّه يؤشّر أيضاً إلى انطلاق مسار التعلّم من عبثيّة الحرب الأهليّة والحروب المجاورة. في 17 تشرين، تحوّل السلم «الأهليّ»، الذي كان مجرّد عنوان آخر للنظام السياسيّ التقاسميّ، إلى منطلق لخلخلة هذا النظام.
مشهديّة التضامن بعد انفجار المرفأ تنسجم، إلى حدّ بعيد، مع مشهديّة اللاعنف حين تفجّرت انتفاضة 17 تشرين من رحم الرغبة في التغيير. فيما واجهت المنظومة المارقة الثورة الأولى بثورة مضادّة محاولةً وأدها بالعنف البوليسيّ والطائفيّ، أفصح المشهد التضامنيّ بعد تفجّر بيروت عن قدرة الناس على مواجهة كلّ الغليان العنفيّ الذي أحالت إليه مجزرة المرفأ بمسلكيّة لاعنفيّة عنوانها التآزر في بلسمة الجراح والتكافل في ترميم ما تهدّم، وذلك إيماناً بأنّ طاقة الحياة أقوى من أنشودة الموت. ليس من قبيل الصدفة، إذاً، أنّ العنف الأمنيّ بلغ ذروته يوم المظاهرة الكبرى في الثامن من آب التي تخلّلتها رمزيّة المشانق. فالمافيا أدركت أنّها لن تستطيع ردّ الناس على أعقابهم ما لم تلعب معهم لعبة التخويف العنفيّة حتّى الثمالة.
حيال كلّ هذا الزخم اللاعنفيّ الذي شكّل ضرباً من خطّ بيانيّ بين 17 تشرين و8 آب، كيف نفسّر العنف الذي استشرى أمام محطّات الوقود وفي حروب الأزقّة؟ من الخطأ، بادئ ذي بدء، أن نعتبر أنّ هذا العنف يعبّر عن جوهر ما كامن في قيعان الذات اللبنانيّة. فهذه نظريّة الذين يروّجون لحتميّة عودة الحرب الأهليّة. لكنّ المستقبل يعيش من احتمالات الممكن ولا يعترف بالحتميّات. كيف نفسّر العنف إذاً؟ لعلّه، بالدرجة الأولى، تعبير عن الخوف: الخوف على الذات سعياً إلى تدبّر أمر بقائها، والخوف من الآخر الذي يصبح في خضمّ متتاليّة الخوف تهديداً لهذه الذات، ولا سيّما إذا اقترنت متاهة الخوف بغوغائيّة السلاح وبطشه.
لعلّ أحد أخطر مظاهر هذه المتاهة هو الخوف من انهيار «النظام» القائم، علماً بأنّ الكلّ يشعر بتشقّق الستاتيكو واهتزازه. لكنّ الاهتزاز شيء، والسعي الدؤوب إلى خلق واقع جديد شيء آخر. هنا تكمن المعضلة. إذا كانت غالبيّة الناس تدرك أنّ المنظومة التي ينتخبونها فاسدة، فلماذا ينتخبونها من جديد، الأمر الذي يمكن أن يحدث أيضاً في الانتخابات القادمة، هذا إذا حصلت. إنّ حسن الفطن يملي عليهم أن يعاقبوا ساستهم، فلماذا يعيدون تدويرهم؟ بكلّ بساطة، لأنّ المسألة لا ترتبط بمعادلات المنطق، بل تخضع لآليّات سيكولوجيّة غاية في التعقيد لعلّ أكثرها فداحةً هو الخوف، الخوف من فقدان ما نعرف، على مساوئه، ومن الخوض في مغامرة ما لا نعرف. أما نقرأ في سفر الخروج أنّ بني إسرائيل، بعد انعتاقهم من طغيان الفرعون، تمنّوا أن يعودوا إلى عبوديّة مصر بسبب خوفهم من الجوع، إي من مغامرة الحرّيّة في الصحراء؟ غريب هو أمر هذه النفس البشريّة! هي كثيراً ما تجنح إلى تفضيل «عبوديّة» ما هو معروف على الحرّيّة المجهولة، وذلك بسبب ما يتحكّم فيها من غثيان الخوف. هذا الخوف على البقاء الذي ترجمته السعي إلى المحافظة على الشرّ الذي نعرفه ومحاولة استعادته، هو العدوّ الأوّل للثورات اللاعنفيّة، والتي يعيّرها كثر بلاعنفيّتها، وكأنّ العنف هو القيمة العظمى.
لم تكتفِ المنظومة المافيويّة بمواجهة اللاعنف عبر توتير الأعضاء وفقء العيون، بل جرّت الناس إلى دائرة العيش دون الحدّ الأدنى، حيث كلّ فرد معرّض لأنّ يصبح عنفيّاً، وأن يمتشق سلاحاً ضدّ أخواته وأخوته في المواطنة، بسبب الخوف من انهيار عالمه الذي أصبح ضحلاً، والخوف على بقائه الذي بات يُختزل بحفنة من المواد الغذائيّة وقارورة من الغاز. حين تتشبّث الإنسانيّة بأحطّ درجاتها، كي تحافظ على ذاتها، تتحوّل إلى بهيميّة: تراكم المواد الأوّليّة، تتغوّل جشعاً في السوق السوداء، وتشهر السلاح ضدّ الآخرين دفاعاً عن وهم اسمه الجماعة المتفوّقة.
اليوم، ثمّة من يريد العودة إلى قدور اللحم في مصر حتّى ولو كان الثمن هو الحرّيّة المولودة من رحم الصحراء. ولكن إذا اقترف خطيئة العودة، هل سيجد القدور في انتظاره، أم مجرّد خواء لا يُسمن ولا يغني عن جوع؟