سيلان التنظير والتحليل…!
د. عدنان منصور _البناء
كم شبع المواطن اللبناني، من التنظيرات، والتحليلات، والاجتهادات، والفذلكات. وكم سئمنا من قراءة ومشاهدة منظرين أطلقت عليهم صفات طنانة رنانة، حتى يخالهم المرء أنهم يديرون دولة عظمى، يخططون لها، ويرسمون سياساتها الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى. يسبغون عليهم صفات فضفاضة لا تعكس حقيقة ما هم فيه من فكر، هو أقرب إلى الثرثرة منه إلى التحليل العلمي المجرّد، حيث يتحرك في إطار ترسم دائرته وتحدّده خلفياتهم السياسية، والعقائدية، والحزبية، والطائفية، والمصالح الشخصية.
يطلّ هؤلاء على الشاشة ووسائل الإعلام، حيث يعرف عن الواحد منهم بالخبير الاستراتيجي، وبالباحث في الشؤون العسكرية والسياسية، والمختص في التحليل والأبحاث، والدراسات الاستراتيجية، حتى يظنّ المشاهد نفسه، أنه أمام المارشال مونتغمري، ورومل، ولوكلير أو الجنرال غياب. ويطل عليك آخر، لا يقبل إلا بيافطة من الألقاب تغدق عليه دفعة واحدة، ليعرّف عنه على أنه الباحث، والخبير السياسي، والأكاديمي، والأستاذ والبروفسور، والدكتور، ليوحي للمشاهد والقارئ على أنه فريد من نوعه، وأنّ الألقاب التي يحملها ستقنع المشاهد أو القارئ في ما يقوله من أفكار وآراء واجتهادات.
يكاد في لبنان أن يصبح عدد الباحثين الاستراتيجيين، و»مكاتب» الدراسات الاستراتيجية، والخبراء، والمنظرين، والمحللين السياسيين، والاقتصاديين، والماليين، يفوق العدد الموجود في دولة كبرى كالصين أو الولايات المتحدة أو غيرها. إذ إنّ قافلة العديد من الذين يطلون علينا، يحرصون على أن يتحدّثوا في كلّ شيء. لا يهمّهم إنْ انتقدهم اختصاصي في مجال معيّن، طالما أنّ غالبية المشاهدين بنظرهم، لن تتوقف عما يقولونه، وإنْ كان تحليلهم للموضوع الذي يتناولونه على جانب كبير من المبالغة والشطط، وبعيد من الدقة. لذلك لن يتردّد في الذهاب بعيداً للحديث والتحليل، وإبداء الرأي في كلّ شيء، من المواضيع السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، إلى المواضيع المالية، والعسكرية، والأمنية، والإدارية، والعلمية، وحتى الفضائية، والبيئية. تراه في التحليل العسكري وكأنه في ساحة الميدان، مكلف لإدارة العمليات والتخطيط والتكتيك، فيحرك الجيوش كيفما يشاء، ويتنقل من هذا الموقع إلى آخر، يتخذ القرار السياسي، ويحدّد الساعة الصفر للعمليات العسكرية، وكأن البلد الذي يتحدث عنه لا قادة فيه، ولا سياسيين ولا راسمي خطط، ولا استراتيجية له. فهو يضع نفسه وكأنه القائد في الميدان يدير العمليات، ليحسم المعركة والحرب على الشاشة. هو جاهز لأيّ سؤال ولأيّ موضوع من دون حرج، هو واثق من نفسه حتى ولو كان الموضوع الذي يخوض فيه، يرتبط بالكواكب والأعاصبر والزلازل والمجرات، وأسرار الكون.
من يريد أن يتحدث عن الاستراتيجيات، عليه أن يكون واحداً من المطلعين بعمق على الوقائع والأحداث والتفاصيل، وسير الأمور، وأن يكون مقرّباً أو ضمن فريق عمل من راسمي الاستراتيجية لدولة ما، وقريباً من صانعي القرار، ومن المطلعين على ما يدور في خلدهم من سياسات وأهداف، وبرامج عمل، وخرائط طريق، ويتحرك ضمن فريق وجهاز عمل موحد، مع ما يتوافر لهذا الفريق من معلومات وإمكانات لوجستية ومالية كبيرة توضع في تصرفه، ليقوم في ما بعد برسم الخطوط العريضة التي تلائم دولته وسياساتها وأهدافها القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى، والتي غالباً لا يكشف النقاب عنها، حيث تتبناها وتنفذها بدقة وعناية وسرية تامة، وحرص شديدين.
كيف بخبير استراتيجي يطلّ علينا، ينظر، يحلل، وهو الذي لا يعرف ما يدور في خلد من يرسم استراتيجيات الدول، وما يبيّتونه للشعوب، فيضع نفسه مكانهم، ويقوم «بالتبصير» ليكشف عما يبيّتونه ويحضّرونه وينفذوه على الأرض. حتى إذا ما انتهت الدولة أو الدول من تنفيذ ما رسمته، تبدأ بعدها قوافل «المنظرين الاستراتيجيين» بشرح لزوم ما لا يلزم، وكأنهم يكتشفون قارة أميركا وأوقيانيا من جديد، فيبدأون بتنصيب أنفسهم وكأنهم هم الذين كانوا على معرفة عميقة، ومطلعين على الاستراتيجية العريضة لهذه الدول، فيصبح حديثهم وتحليلهم كأسطوانة مشروخة نقرأه في الصحف، ونسمعه على وسائل الإعلام المرئية. حديث وتحليل لا يثمن فكرياً إنْ استمعت إليه، ولن يجعلك تأسف إنْ أعرضت عنه.
قليلاً من التواضع، أيها «الاستراتيجيون» و»المنظرون» و»المحللون»، ودعوا كلّ صاحب اختصاص أن يدلي بدلوه، لا أن تزجّوا أنفسكم في سوق عكاظ يحوي ما هبّ ودبّ من الآراء والأفكار، لملء البرامج، من دون أن تخضع لأصول ومقاييس وضوابط فكرية ومهنية واضحة. إذ إنّ المواضيع الحساسة الدقيقة التي ترتبط بمستقبل أمة وشعب، وبأمنه ووحدته، وسيادته، ومصيره، وحياته، لا بدّ من أن تعالج وفق نظرة موضوعية علمية مجردة، لا أن تعالج من زاوية فردية ضيقة، لا تتعدّى وجهة نظر شخصية.
كثيراً ما تكون التحليلات، والمعالجات، والتصورات تستند إلى الخلفيات والمواقف الفردية المتشنجة المسبقة، وبعيدة من الموضوعية، والواقع، والمنطق، والفكر السليم. وهذا ما يجعل «المحلل الاستراتيجي» و»الباحث» و»المحلل» في شؤون سياسية أو اقتصادية أو مالية أو عسكرية، يصطدم بمطبات، ويقع في حفر هو بغنى عنها.
ما يريده المشاهدون والمستمعون إلى البرامج السياسية والتحليلية وغيرها، من المنظرين، الكثير من الواقعية والتجرّد، والنظرة العلمية للأمور والقليل من الشطط والحماسة، والاندفاع، احتراماً لعقول المشاهدين، وعدم الاستخفاف بهم، وحفاظاً على صدقية «المحللين» و»المنظرين».