على امتداد القرن الماضي، ظلّت الولايات المتحدة وأوروبا المتحكّمَين الرئيسَين بالاستثمار الأجنبي في أميركا اللاتينية. لكن في خلال الخمسة عشر عاماً الفائتة، برزت الصين كمنافس اقتصادي لهما هناك، قرَع جرس الإنذار بالنسبة إلى نفوذهما في هذه المنطقة. ونتيجة لهذا الواقع الجديد، دخلت أميركا الجنوبية خطوط الصراع بين بكين، المهتمّة بتوسيع شبكة سطوتها الاقتصادية، وبين واشنطن، التي تريد إبقاء تلك الدول تحت جناحها. لكن التحدّي الأميركي صعّبه تمكّن الصين، في وقت قياسي، من استمالة الكثير من البلدان اللاتينية لإدخالها ضمن مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عام 2013.
مع ذلك، لا تَعدم الولايات المتحدة الأمل. ولذا، جاء إعلانها الشهر الماضي، على هامش قمّة «مجموعة السبع» (تضّم إليها، كلّاً من ألمانيا، كندا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة) الأخيرة، مبادرة «إعادة بناء عالم أفضل»، على قاعدة التعاضد الغربي لمواجهة الصين على الجبهات كافة. وتتضمّن المبادرة التي طرحها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وصادق عليها قادة الدول السبع، خطّة استثمار عالمية موجّهة إلى الدول الفقيرة، خصوصاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا، من أجل إنهاض قطاعات مختلفة مِن مِثل المناخ والصحة والقطاع الرقمي ومكافحة التباين الاجتماعي، بالاعتماد على مئات مليارات الدولارات التي سيضخّها القطاع الخاص. واللافت أيضاً أن الخطّة تُركّز على مجالات البنية التحتية، وهو ما يمثّل مؤشّراً إضافياً إلى كونها بمثابة تحرّك مضادّ لـ«الحزام والطريق» الصينية.
ارتأت الولايات المتحدة، نظراً لما تحوزه أميركا الجنوبية من أهمّية حيوية بالنسبة إليها، بدء تنفيذ مخطّطها من هناك. ولذا، سافر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، داليب سينغ، إلى بنما والإكوادور وكولومبيا لتحضير الأجواء، وبحْث المشاريع التي يمكن لبلاده من خلالها مواجهة نفوذ الصين، ليتقرّر بعد ذلك، تنظيم جولة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلكين، إلى المنطقة عينها، كتكملةٍ لجولة سينغ، وسعياً وراء الهدف نفسه. ونظراً لإدراك واشنطن صعوبة المهمّة الماثلة أمامها، فهي تعود إلى المراهنة على تقديم «المنتج الأفضل» في مواجهة الاستثمارات الصينية، كما جاء على لسان سينغ الذي أكد في الوقت عينه أن بلاده لن تطلب من الدول اللاتينية «الاختيار بين بكين وواشنطن». وعلى رغم التفاؤل الذي أبداه المسؤول الأميركي خلال جولته، إلّا أن الخبراء يعتقدون أن الولايات المتحدة وصلت متأخّرة إلى اللعبة، وأن مبادرتها قد لا تؤتي ثمارها لسببَين: أوّلهما أن المبادرة الصينية لا تتعلّق بالبنية التحتية فقط، بل هي تُعنى بمجالات أخرى مِن مِثل التجارة والعلاقات الدبلوماسية والروابط المالية وهو ما سيصعّب التنافس؛ وثانيهما أن 19 حكومة في أميركا اللاتينية انضمّت بالفعل إلى «الحزام والطريق»، فيما الدول التي لم توافق عليها، لم تمانع توقيع معاهدات تجارية ضخمة مع بكين.
على المقلب الصيني، تُدرك حكومة شي أن الولايات المتحدة قد عزمت أمرها على مقاومة الوجود المتنامي للدولة الآسيوية في أميركا اللاتينية، لكن ذلك لا يبدو، إلى الآن، أنه يضعف تمسّكها باستكمال مشاريعها هناك، وهو ما يُظهره، مثلاً، توقيع الصين وكوبا، قبل أسبوع فقط، اتفاقية لتحديث شبكة الكهرباء لدى الأخيرة، في صفقة هي الأحدث ضمن سلسلة طويلة من القروض والصفقات التجارية ومشاريع البناء والاستثمارات في أميركا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي. ووفق صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، فإن بكين «لا تنوي التنافس مع واشنطن على النفوذ في أميركا الجنوبية… كما أنها لا تريد من بلدان المنطقة الاختيار بينها وبين واشنطن»، مُستدركةً، في مقال نُشر قبيل جولة سينغ، بأن الحكومة الصينية تريد الانخراط مع البيت الأبيض في أميركا اللاتينية في تعاون «متعدّد الأطراف». وختمت بالقول إنه «بغضّ النظر عن المخطّط الأميركي، فإن سياسات الصين تجاه أميركا الجنوبية لن تخضع لتغييرات جوهرية… سيستمرّ العامل الصيني في لعب دور مهمّ في إعادة إعمار تلك البلدان».