فاجأ نجاح الصين في إطلاق صاروخ فرط صوتي في مدار الأرض، اخترق القطب الجنوبي، المخابرات الأميركية، وفقاً للـ«فايننشال تايمز»، التي كانت أوّل صحيفة تُخصّص مقالاً حول هذا التطوّر الحاسم في سباق التسلّح الدولي. لم يتردّد بعض المعلّقين الأميركيين والغربيين في مقارنة هذه العملية، وما ستؤسّس له من ديناميات عسكرية وتكنولوجية، بنجاح الاتحاد السوفياتي في إطلاق أوّل صاروخ إلى الفضاء، هو صاروخ «سبوتنيك»، في 4 تشرين الأول 1957، الذي شكّل لحظة فارقة في تاريخ سباق التسلّح بين الاتحاد والولايات المتحدة، وأدّى إلى تعاظم الأوّل. أبرز ميزة لصاروخ «المسيرة الطويلة» هو قدرته على القيام بالمناورة أثناء التحليق بالسرعة فرط الصوتية وقطع مسافات هائلة، ما يمنع كلّ أنواع الدروع الصاروخية وحتى منظومات الإنذار الهوائي المبكر من اكتشافه، إضافة إلى قابليّته لاختراق القطب الجنوبي ومهاجمة أهداف في الولايات المتحدة من أيّ اتجاه، تفادياً لأنظمة الدّرع الصاروخية الأميركية، التي تحمي البلاد من ضربات تُوجَّه من اتجاه الشمال، وليس الجنوب. المواجهة الإستراتيجية بين «التنّين الفتيّ» و«النسر الهرِم» تحتدم، وتمتدّ لتشمل جميع الميادين السياسية والعسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، لأن الثاني قام بنقض أسس المقايضة الكبرى التي استندت إليها الشراكة بينهما منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وامتدّت إلى حوالى ثلاثة عقود، وارتكزت إلى قبول الصين بقواعد «النظام الليبرالي الدولي» الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، مقابل احترام الأخيرة لوحدة الصين، وسيادتها واستقرارها. وعلى العكس من أُمنيات الليبراليين، لم تفضِ ضخامة المصالح الاقتصادية والمالية والتجارية المشتركة بين البلدين إلى الحؤول دون طغيان المنطق الإمبراطوري الطامح إلى السيطرة الأحادية لدى واشنطن، والصدام المحتوم مع القوّة الصينيّة الصاعدة، كما جرى في حقبات تاريخيّة سابقة بين إمبراطوريّات هرِمة وأخرى فتيّة.

صدام محتوم
مع إعلان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، «الاستدارة نحو آسيا» في عام 2012، باتت مجابهة الصين سياسة رسمية أميركية، لكن عدّة مؤشّرات سابقة على التاريخ المُشار إليه، بالتوازي مع نهايات الثنائية القطبية في أواخر الثمانينيات، أظهرت توجّهات عدائية لدى واشنطن حيال بكين. أوّل هذه المؤشّرات كان الموقف الأميركي من أحداث ساحة تيان آن مين في 1989، والتي حظيت بتغطية خاصة من وسائل الإعلام الأميركية، وتلتها عقوبات فُرضت على الصين من قِبَل الولايات المتحدة، بسبب قمع الأولى للاحتجاجات التي شهدتها. شكّل هذا الموقف سابقة في العلاقات الصينية – الأميركية التي سادها التعاون الاقتصادي والتجاري والسياسي طوال عقدَي السبعينيات والثمانينيات، والتي استندت أساساً إلى تقاطع المصالح الاستراتيجية ضدّ السوفيات. وعلى الأرجح، فإن الذي يفسّر هذا التغيّر هو أمل الجهات المسيطرة في واشنطن بأن تتّسع موجة الاحتجاجات «الديمقراطية»، التي عصفت بدول المعسكر الاشتراكي السابق وأطاحت بأنظمته، في الصين، وتُحقّق النتيجة نفسها. نُظر إلى التغيّر المذكور في بكين على أنه بادرة سوء نيّة، سرعان ما تجلّت مراراً وتكراراً في ما بعد. ففي أواسط التسعينيات، أعاد الأميركيون اكتشاف «مظلومية» شعب التيبت، وتحوَّل زعيمه الروحي، الدالاي لاما، إلى أيقونة للمدافعين عن «الحرية»، وبوسائل سلمية، يا للروعة! وهو حظي تِسع مرّات بشرف لقاء رؤساء أميركيين متتالين. تبع ذلك، في أوائل الألفية الثانية، اكتشاف واقع «الاضطهاد» اللاحق بأقلّية الإيغور، واجتماع الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، بأحد ممثّليها المزعومين، ربيعة قدير، في «مؤتمر الديمقراطية والأمن» في براغ سنة 2007، حيث وصف قدير بأنها «أكثر قيمة من كلّ أسلحة الجيوش أو النفط تحت الأرض». وفي 2014، أيّدت إدارة باراك أوباما التظاهرات في هونغ كونغ ضدّ مشروع إصلاح نظامها الانتخابي الذي قرّرته بكين.

وإضافة إلى ما تَقدّم، فإن أكثر قضية إثارةً لحفيظة بكين هي التحوّلات المستمرّة، وفي اتجاه سلبي، في موقف الولايات المتحدة من تايوان، بما يعزّز لدى الأخيرة النزعة الانفصالية، ويُعدّ، من وجهة نظر بكين، تراجعاً عن مبدأ «صين واحدة» الذي كان بين الأسس المتّفق عليها للعلاقات «الودّية» بين البلدين في الماضي. وقد شكّلت دعوة ممثّلة تايوان لحضور حفل تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، وهو ما لم يُقدِم أيّ سلف له عليه منذ 1978، خطوة تصعيديّة إضافيّة في الاتجاه المذكور. وبحسب وانغ جيسي، رئيس «معهد الدولية والاستراتيجية» في جامعة بكين والمستشار في وزارة خارجية بلاده، في مقال نشره في «فورين أفيرز» في حزيران 2021، فإن «الحزب الشيوعي الصيني مقتنع بأن مجمل المبادرات الأميركية حيال الصين تندرج في إطار استراتيجية كبرى تهدف إلى تغريبها وتقسيمها، لمنعها من الصيرورة قوّة كبرى». والحكومة المركزية في بكين، ووسائل إعلامها، لا تميّز في هذا المضمار بين السلطات التنفيذية أو التشريعية في أميركا، وكذلك بين وسائل الإعلام أو المنظمات غير الحكومية المتمركزة فيها.
لم يكن هذا التحوّل في الموقف الأميركي حيال الصين مفاجئاً في الحقيقة. ففي عام 1992، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، صدر تقرير بول وولفوفيتز الشهير، والذي أُعدّ بطلب من إدارة بوش الأب، ليُجهر بأن الولايات المتحدة ستمنع أيّ قوّة دولية من التحوّل إلى منافس من مستوى مساوٍ لها. تعاطيها مع الصين، التي التزمت بقواعد المقايضة المشار إليها سابقاً معها، وركّزت على تنمية قدراتها الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية، وامتنعت لعقود عن اعتماد أيّ سياسات خارجية تتعارض مع تلك الأميركية، إلى درجة أن البعض شكّك في امتلاكها سياسة خارجية أصلاً، يثبت قطعاً أن السعي لوقف صعودها هو السبب الرئيس للصراع الحالي بينها وبين الولايات المتحدة. جميع الحجج الأخرى التي تسوقها واشنطن لتبرير عدوانيّتها المفرطة ضدّ بكين، من نوع عدم احترامها «قواعد النظام الدولي»، وهو مفهوم ضبابي لا يُعرف إذا كان يُقصد به القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق التي لا تلتزم واشنطن بالكثير منها، هي مجرّد غلاف أيديولوجي، شديد الشفافية في الواقع، ولا يقوى على حجب نزعتها الإمبراطورية الجامحة.

زعزعة الاستقرار بـ«طوق من لهب»
يشكّك العديد من المحلّلين في نجاح الولايات المتحدة في جرّ الكثير من حلفائها الغربيّين، وحتى من الدول المجاورة للصين، للانضمام إلى استراتيجيتها العدوانية ضدّها. مجلّة «الإيكونوميست» مثلاً، الوثيقة الصلة بأوساط الشركات الكبرى الأميركية والغربية، اعتبرت في مقال نُشر في 17 تموز الماضي أن «اتّباع بايدن مقاربة ثنائية تبسيطية تفترض وجود معركة بين الديمقراطية والأتوقراطية، يشي بمبالغته في تقدير نفوذ الولايات المتحدة واستخفافه بخسائر حلفائه المفترضين في حال وقوفهم ضدّ الصين. فوفقاً للكثير من المؤشّرات الاقتصادية، ستصبح الأخيرة قوّة مهيمنة مهما فعلت الولايات المتحدة. ستُصبح أكبر اقتصاد عالمي، وهي الآن الشريك التجاري الأوّل لعدد من البلدان يساوي ضعف عدد شركاء أميركا. تحرص ألمانيا، أوّل مُصدّر أوروبي، على علاقاتها التجارية مع الصين، حتى لو تعكّرت تلك السياسية معها. وفي جنوب شرق آسيا، تُعزّز العديد من الدول تعاونها الأمني مع واشنطن، لكنها توثّق صلاتها الاقتصادية والتجارية مع بكين للحفاظ على ازدهارها. واذا اضطرّت للاختيار بينهما، فإن بعضها قد يختار الصين». يذهب ستيفن والت، الخبير الأميركي في العلاقات الدولية، في الاتجاه نفسه في مقال له على موقع «فورين بوليسي» في الـ16 من هذا الشهر، إذ يشير إلى أن الدول الأوروبية ليس من مصلحتها أن تنحاز إلى جانب الولايات المتحدة في مواجهتها مع الصين، مُذكّراً بما قاله وزير المالية الفرنسي برونو لومير، من أن «الولايات المتحدة تريد مجابهة الصين، بينما يرغب الاتحاد الأوروبي في إشراكها».
يتّضح ممّا سبق، أن الولايات المتحدة تعمل على إنشاء «تحالف راغبين» ضدّ الصين، وعلى استدراج الأخيرة إلى سباق تسلّح، واستنزافها عبر تسعير التوتّرات والنزاعات في جوارها. ويعكس مقال في «فورين أفيرز»، للخبيرَين الأميركيَّين هال براندز ومايكل بيكلي، بعنوان «نهاية الصعود الصيني» في الأوّل من هذا الشهر، المنطق الضمني الذي يحكم المقاربة الأميركية. إذ يرى الكاتبان أن العامل البنيوي المحدّد الذي أسهم في النهضة الشاملة التي عرفتها الصين هي الاستقرار الجيوسياسي الذي عرفته نتيجة لمقايضتها الكبرى مع الولايات المتحدة، والتي مكّنتها من الانصراف للتنمية. أمّا اليوم، وبنظرهما طبعاً، فهي أمام «طوق من نار»، لأنها في مقابل مجموعة واسعة من الدول المجاورة التي تتحالف مع قوّة خارجية لصدّ طموحاتها. ويلفت الكاتبان إلى أن «واشنطن حشدت أضخم قدرات بحرية وصاروخية منذ جيل، وفرضت أقسى التعريفات الجمركية منذ الحرب العالمية الثانية، وأشدّ قيود على الاستثمارات منذ الحرب الباردة، وجميع هذه الإجراءات مُوجّهة ضدّ الصين. كذلك، ارتفعت مبيعات السلاح الأميركية، والدعم العسكري أيضاً، لدول جوار الصين، فيما قد تقود العقوبات التكنولوجية المفروضة ضدّ هواوي إلى تدميرها مع غيرها من الشركات الصينية العاملة في الحقل نفسه». تراهن الإمبراطورية الأميركية، العسكرية أساساً، وقبل أيّ بُعد آخر من أبعادها، على «القوّة الخشنة» لصدّ تطلعات دولة يمثّل سكانها 18.7% من مجمل سكّان المعمورة، وهي قطب اقتصادي وتكنولوجي مركزي على الصعيد العالمي، ولديها جيش من مليونَي جندي، و2041 طائرة، و360 قطعة بحرية و58 غواصة 12 منها نووية، و350 رأساً نووياً، وصواريخ فرط صوتية كَشفت عنها أخيراً، ومصمّمة على التصدّي للمسعى الأميركي. وأيّاً يكن، فإن ممّا لا شكّ فيه هو أن مآلات هذه المواجهة سترسم أبرز معالم النظام العالمي القادم.