المسيحية المشرقية من سهل نينوى إلى أسود رام الله
سعادة مصطفى أرشيد*-البناء
مثلت المسيحية المشرقية عاملاً من عوامل تكوين الشرق عبر عشرين قرناً مضت، وتكاملت مع الإسلام في خلق مواطنة تنتمي إلى هذه الأمة، وإلى هذه الأرض ثم إلى فكرة التوحيد برسالتيها المسيحية والمحمدية، ومع محاولات القوى الغازية أو المحتلة أن تغيّر من هذه الحقيقة إلا أنها وإنْ أصابت نجاحاً مؤقتاً، كانت ما تلبث أن تنهزم أمام الحقيقة الراسخة بوحدة العلاقة بين الإنسان والأرض.
في منتصف القرن التاسع عشر، ظهرت مشاريع تقسيم شرق الهلال السوري الخصيب، وأخذت تفعل بالعقل الاستعماري الأوروبي، وأخذت فعلها على الأرض، إذ كان المدخل الذي وجدته أمم أوروبا المتصارعة على الشرق وعلى الدولة العثمانية، قد تمثل لديهم بتبني مشروع الطوائف واعتماده بديلاً للأمة القومية، التي رأوها حكراً على الشعوب المتفوّقة من أمثالهم، وفي حين بقي المسلمون السنة على ولائهم للدولة والنظر إليها باعتبارها الدولة الجامعة والوارثة للخلافة الشرعية، وأصبحت روسيا القيصرية راعية طائفة الروم الأرثوذوكس، وإيران الصفوية راعية الشيعة، وفرضت فرنسا حمايتها على الموارنة والكاثوليك، ولما لم تجد إنجلترة أتباعاً للمذهب البروتستانتي لتتبناهم وتفرض حمايتها عليهم، أخذت تفكر بطوائف أو أقليات أخرى، فكرت بداية بتبني النور (الغجر)، ولكنها لم تجد فيهم ضالتها، فالتجأت إلى تبني الدروز، ونشرت دراسات متهافتة حول أصل مشترك مزعوم يجمع الدروز مع الإنجلو ـ ساكسون، وهي دراسات لم تجد من يشتريها . تسلح الدروز في حينه بالبنادق الإنجليزية وخاضوا حروبهم على حساب الإنجليز، لكن عملانيتهم (برغماتيتهم) من جانب وعددهم القليل من جانب آخر دعا الإنجليز للأخذ بخيار تبني اليهود وإقامة وطن لهم بنقلهم من أوطانهم إلى جنوب الهلال السوري الخصيب (فلسطين)، اضطرت الدولة العثمانية الضعيفة إلى الموافقة على إقامة قنصليات عامة للدول الطامعة في مدن شرق الهلال الخصيب، وكانت تلك القنصليات غير مرتبطة بسفراء دولها في إسطنبول، وإنما بوزارات الخارجية مباشرة وأجهزة الاستخبارات، ومنحت صلاحيات استثنائية.
لم تكن السياسات الاستعمارية – ولن تكون، لها أيّ بعد أخلاقي، فلم تكن ترى في الطوائف والأقليات، إلا أدوات للاستعمال ولخدمة الراعي غير الصالح، فكما درس الفرنسيون في تلك الفترة فكرة تهجير الموارنة وكاثوليك الشرق ونقلهم للجزائر عقب الاحتلال الفرنسي لها، فكر الإنجليز بتهجير اليهود إلى فلسطين، وخلاصة القول إن لا أحد من هؤلاء معني بالوجود المسيحي بالشرق، وها هي السياسات الغربية قد قادت لأن تنخفض نسبه المسيحيين في الشرق بشكل يجعل منهم أقلية مجهرية، فيما يزداد عدد اليهود ليتفوّق على عدد المسيحيين، بخاصة في الجنوب (فلسطين)، حيث أصبحت نسبه المسيحيين لا تزيد على 1 في المئة.
فرنسا، الدولة العلمانية فرنسياً، ليست علمانية في بلادنا، وإنما راعية لبعض المسيحيين كما تزعم، وفي زيارة رئيسها ماكرون الأخيرة للعراق، استمع إلى حديث مهمّ ومعبّر من مطران نينوى للكنيسة السريانية، المطران داؤود شرف، الذي قال له متسائلاً وبطريقة استنكارية: أنتم تعرفون كلّ شيء، أقماركم الاصطناعية كانت تزوّدكم بالمعلومات، أنتم من غضّ النظر عن ذبح المسيحيين على أيدي التكفير في الموصل وإلى تهجيرنا إلى سهل نينوى لنطارَد من جديد، أنتم من منح الغطاء لذبحنا وتهجيرنا مرتين، ولكن عندما تقرّر إنهاء داعش انتهت، وكأنّ ذلك المطران الصادق يقول للرئيس الفرنسي إننا ضحاياكم وضحايا سياساتكم، وهو الأمر الذي أشار إليه أمين عام حزب الله الاثنين الماضي .
في الشام، حيث عصفت رياح الربيع الزائف، أطلت في غمرة غبارها الطائفية، وأصابت المسيحية المشرقية وما في داخل حظيرة الإسلام المشرقي المنفتح على الآخر، وذلك على أيادي مختلفة، من الجار التركي إلى الغرب المتوحش، وأداوتهم التي تتفق حيناً وتتنافر حيناً آخر، ولكنها جميعاً تعمل على تحطيم الدولة وتمزيق وحدتها، فكان خطف المطرانين، غريغور حنا إبراهيم وبولس اليازجي، والعائدين من زيارة النجف، وكان الاعتداء على الكنائس والمساجد، ووصل الأمر باغتيال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، داخل المسجد، تظهر في أحداث الشام وحدة جماعات التطرف والتكفير وإلغاء الآخر، وأوضح مثال على ذلك تصريحات قائد القوات اللبنانية عقب أحداث معلولا والاعتداء على كنائسها: أنّ هذا مجرد (حكي)، ورفض تحميل جبهة النصرة أية مسؤولية عما جرى في معلولا، فيما تأكد أنّ القوات اللبنانية كانت تنسق مع مقاتلي جبهة النصرة قبل وأثناء احتلالهم لمعلولا.
تجار الدم في لبنان لا ينتمون إلى طائفة بعينها، فتجار الدم عابرون للطوائف والمذاهب، منذ حادث الطيونة قبل أيام، ظهر أنّ قائد القوات اللبنانية يتموضع في منزلة بين منزلتين، منزلة أن يكون داعشياً مسيحياً، يلعب دور المعادل لدور داعش في الموصل وسهل نينوى، وبين منزلة الدور الرديف لدور ماكرون في ادّعائه الدفاع عن المسيحيين باعتباره المقاول الفرعي الصغير والثانوي، أو داعم من يريده الوهابي في رئاسة حكومة لبنان، هذا (القائد) يعمل على إشعال نار الحرب التي يعرف تماماً أنه لا يستطيع الانتصار بها، لا بل ولا الصمود قليلاً أمام نارها لا عسكرياً ولا سياسياً، وأنّ نتيجتها لن تكون وطناً للمسيحيين ولا حتى حصة أكبر لهم من كعكة الطوائف المسمومة، وهو يعرف تماماً مصالحه الضيقة ويعرف ما هي مكاسبه الشخصية، التي توفرها له تجارة الدم والسلاح والحرب ما دام مستفيداً، واستذكر ما قاله عنه رئيس الاستخبارات السعودي قبل أشهر، لقد دفعنا له 500 مليون دولار دفعة أولى، وألحقناها بـ 500 مليون دولار أخرى ولم يفعل شيئاً، علماً أنه وعدنا بقلب لبنان رأساً على عقب، وعلى رأس المقاومة، قال لنا إنه سينظم جيشاً من السنة من عكار وطرابلس وإنه سيدرّبهم عسكرياً لقتال الشيعة والمقاومة، سوى شراء العقارات والأسهم، وشراء زوجته للمجوهرات الثمينة، لذلك يراه خالد الحميدان ليس إلا نصاباً سياسياً هو وجوقة السياسة السعودية في لبنان، ولا يزال يرى في إثارة نار الحرب مجالاً لزيادة ثروته وتعظيم دوره ونفوذه فلا يهمّه شيء آخر، ولا يرى أن في لبنان ما يكفي من أزمات انهيار سعر صرف الليرة، أو أزمات الخبز والكهرباء والدواء والمحروقات والنفايات، ولا يرى بأساً في تهجير المسيحيين إلى أبعد الأماكن عن لبنان، وتحويل لبنان إلى أندلس ماروني، ومادة جديدة للشعر المهجري، أو مكان يزوره الأجداد برفقة أحفادهم، لتناول التبولة والكبة والكشك وغيرها من أصناف الطعام .
في فلسطين الحزينة، من الأزمات ما يفيض عن قدرتها على الاحتمال، حتى الأسود الرابضة منذ عقود في ساحة رام الله الرئيسية، لم تستطع الدفاع عن نفسها أمام معاول التكفير، ولم تجد من يدافع عنها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ