في ذكراه.. لماذا يشكل عبد الناصر “حالة تاريخية فريدة”
الكاتب: إيهاب شوقي-موقع الناشر
قليل هم الرجال الذين يتحولون لرمز وتوجه ويمكن اختزالهم لمجموعة من المبادئ والثوابت، وقليلة هي الشخصيات التاريخية التي ينتسب لاسمها تيارات.
الزعيم الكبير جمال عبد الناصر، والذي تمر ذكرى رحيله الواحدة والخمسون، هو من هؤلاء الرجال ومن هذه الشخصيات النادرة.
لعل خصوصية حالة جمال عبد الناصر تكمن هنا في أنه ليس شخصية دينية تحيطها هالات القداسة الدينية، ويصبح اجلالها من ضوابط الأديان ومقتضياتها، ولعله الوحيد من غير الأئمة واولياء الله، الذي يتوجه المستضعفون وأنصار الحرية لقبره لإفراغ الهموم وسكب الدموع والشكوى من المظالم وملمات الحياة.
هنا تجدر وقفة هامة لتحليل هذه الحالة، فهي حالة وحدة وجدانية مع انسان لمس الناس صدقه واخلاصه وتفانيه، ووقفوا معه في انتصاراته وانكساراته، وايقنوا انه غير معصوم الا انه جدير بالمساندة، فهو الأب الذي لا يمكن التخلي عنه وهو صاحب المعارك الجماعية التي جاء العقاب عليها جماعيا، فلا يمكن التنصل من دعمه لأن معاركه لم تكن خاصة.
كان بإمكان عبد الناصر أن يلعب على حبال السياسة وتوازناتها واستغلالها لتمكين حكمه وتعظيم سلطانه، بينما اختار أن يصارعها لعلمه أنها حبال لشنق الفقراء والكادحين والمستضعفين.
وكان بإمكانه الالتحاق بمعسكر الهيمنة وتوفير الجهد والعمل والمخاطر والمعارك وخاصة أنه ورث حالة غير ثورية الا على الاحتلال، فكان من السهل التظاهر بالتحرير واستبداله باحتلال اقتصادي يضمن له سلطة آمنة واستقرارًا داخليًّا، إلا أنه من الحكام ذوي الندرة التاريخية الذين اختاروا تثوير الشعوب وتحريضهم لأنه مناضل ثوري وليس حاكمًا.
اي حاكم هذا الذي يرفض عروض الاستقرار والتمكين من المستعمر، فيغلب عليها المعارك والمواجهة معه، لا لتهور وحب في الزعامة كما يتم تشويهه، بل لانحياز صريح للجماهير وللمبادئ وللكرامة؟
المفارقة أن الكثيرين سعوا لابتداع مفهوم العلمانية واعتناقه في الحكم تهربًا من ضوابط جوهر الدين القائمة على العدل ومفاهيم المقاومة، وقد تطابقوا مع الكثيرين ممن اعتنقوا شعارات اسلامية وكثفوا من المظاهر الشكلية، تهربًا أيضًا من ذات الجوهر.
إلا ان عبد الناصر لم يكن مدعيًا، بل سعى لتطبيق جوهر الدين وتكييف نظريات الحكم بما فيها العلمانية وفقًا للدين وجوهره.
كان ناصر واحدًا من الجماهير، وكان نمط حياته متطابقًا مع مجمل الشعب ومع طبقته الوسطى التي لم تشكل استفزازًا للفقراء، وكانت فرص الترقي الاجتماعي مكفولة لكل من له كفاءة وإرادة ودأب.
ولعل الانجاز الاكبر لعبد الناصر هو تجسيد الكرامة والتحدي بشكل عملي، حيث رأت الشعوب بعينها الانجازات على ارض الواقع، لتتحول الشعارات من مجرد قيم ومحرضات ودوافع الى مشروعات وانتصارات ملموسة وليست موعودة.
كثير من الحكام يعد بالرخاء والرفاه إحالةً على مستقبل بعيد او قريب، بينما احال عبد الناصر وعوده الى الحاضر، فحقق في اعوام قليلة ما بقي شاهدًا وحجة على المتلاعبين والكاذبين والانهزاميين.
دفع عبد الناصر ثمن تحدياته وما شكله من تيار ثوري شامل تخطى حدود العرب ليصل الى افاق جغرافية بامتداد خارطة العالم، فكانت الخيانات والدعايات والعدوان العسكري. وللمفارقة، ان الحرب لا تزال حتى وقتنا الراهن لأن المراد هو القضاء على المثل والنموذج.
ذات الحرب تشن الآن على الثورة الاسلامية وعلى محور المقاومة، والغريب ان بعض الناصريين المنتمين لهذا الزعيم لا يفطنون الى ذلك فيشاركون بسفه في الدعاية ضد المقاومة وعدم الانتماء لها.
عمل عبد الناصر بجوهر الدين فأصبح قديسًا في وجدان الشعوب، وحكم بجوهر الثورة فتحول رمزًا للمعارضة.