زعيم الفقراء لا يزال حياً!
د. محمد سيد أحمد-البناء
هذا المقال تتكرّر الكثير من مفرداته في 28 سبتمبر/ أيلول من كل عام، حيث تحلّ ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر البطل الأسطوري الذي غادرنا في عام 1970، وعند حلول ذكرى رحيله الموسمية تتعالى أصوات الفقراء مترحّمة عليه وعلى أيام حكمه التي أنصفتهم وحققت لهم العدالة الاجتماعية المفقودة والعزة والكرامة فى وطنهم، بعد أن كانوا مهانين ومهدرة كرامتهم وإنسانيتهم. فقبل قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 كان المجتمع المصري يعرف بمجتمع النصف في المائة، ذلك النصف الذي يسيطر على الثروة والسلطة والنفوذ مقابل السواد الأعظم من المصريين الذين يعيشون في ظروف صعبة للغاية ومعاناة في توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
ويلخص الزعيم جمال عبد الناصر أحوال المجتمع المصرى عشية قيام الثورة في إحدى خطبه حيث يقول: «500 مليون جنيه مع 700 واحد.. طب والـ 27 مليون عندهم أيه.. ده الوضع اللي ورثناه.. ده الاشتراكية لما يبقى فيه عدالة اجتماعية.. لكن مش العدالة الاجتماعية ولا المجتمع اللي نعيش فيه واحد يكسب نص مليون جنيه في السنة.. وبعدين كاتب لأولاده أسهم كل واحد نص مليون جنيه.. طب والباقين الناس اللي ليهم حق في هذا البلد.. إيه نصيبهم في هذه البلد.. يورثوا إيه في هذا البلد.. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنى إرثاً والفقر إرثاً والنفوذ إرثاً والذلّ إرثاً.. لكن نريد العدالة الاجتماعية.. نريد الكفاية والعدل.. ولا سبيل لنا بهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات.. ولكل فرد حسب عمله.. لكل واحد الفرصة.. لكل واحد العمل.. ثم لكلّ واحد ناتج عمله».
وتكشف كلمات الرئيس كيف كانت أحوال المصريين؟ وكيف كانت الخريطة الطبقية؟ وتكتشف أيضاً رؤيته الثاقبة وقراءته النافذة التي مكنته من وضع يده على الجرح العميق في جسد المجتمع المصري، وقدرته الفائقة على التشخيص السليم ووضع روشتة العلاج، والذي تمثل في تحديد الأولويات التي جعلت من العدالة الاجتماعية الحل الأمثل التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتذويب الفوارق بين الطبقات، لذلك جاء مشروعه المنحاز للفقراء منذ اللحظة الأولى ليوجه ضربات قاسمة إلى الاقطاعيين والرأسماليين والأجانب الذين لم يتجاوز عددهم 700 شخص كانوا يحوزون الثروة والسلطة والنفوذ، فكان قانون الإصلاح الزراعي وقرارات الـتأميم والتمصير ثم القرارات الاشتراكية، وهو ما أتاح الفرصة لتذويب الفوارق بين الطبقات، وإتاحة فرص التعليم والعمل أمام الجميع وهو ما حقق مجتمع الكفاية والعدل، حيث تغيّرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصري ونمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق في تاريخ المجتمع المصري.
ويشكل قانون الإصلاح الزراعي التعبير الحقيقي عن فلسفة الثورة وعن توجهات قائدها وانحيازاته للفقراء، فقد كان وضع الملكية الزراعية في مصر سبباً رئيسياً لبؤس الفلاحين وهم الغالبية العظمى من المصريين في ذلك الوقت، ففي عام 1952 عشية الإصلاح الزراعي كان المالكون لأكثر من 200 فدان أقلّ من 1 في المئة من إجمالي عدد ملاك الأراضي الزراعية ويملكون 30 في المئة من إجمالي مساحة الأرض الزراعية، في حين بلغت نسبة الذين يملكون أقلّ من خمسة أفدنة 94 في المئة بنسبة 35 في المئة من إجمالي المساحة، أما نسبة الـ 35 في المئة الباقية من جملة مساحة الأرض الزراعية فكانت موزعة بين ملكيات أقلّ من 200 فدان إلى أكثر من خمسة أفدنة وبلغت نسبتهم 5 في المئة، لذلك جاء قانون الإصلاح الزراعي بعد 46 يوماً فقط من الثورة ليقول جمال عبد الناصر للفلاحين الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب أنني معكم أشعر ببؤسكم، وما جئت بثورتي إلا من أجل رفع الظلم عنكم وتحقيق العدالة الاجتماعية التي عشتم تحلمون بها.
وكان جمال عبد الناصر سريع الاستجابة للفقراء والكادحين وقادر على فهم احتياجاتهم من دون تصريح، ففي إحدى زياراته لصعيد مصر توقف القطار في إحدى المحطات ففوجئ عبد الناصر ومرافقوه برجل بسيط يصيح «أنا جابر السوهاجي يا ريس» ويلقي بصرّة داخل الديوان الذي يقف فيه عبد الناصر ورفاقه وقعت بين أرجلهم وتملك الحضور بعض من الارتباك نتيجة المفاجأة، وسارع أحد ضباط الحراسة الخاصة بالتقاط هذه الصرة بحذر، وبدأ يفتحها وكانت المفاجأة أنّ الصرّة لا تحوي غير رغيف من الخبز الناشف (بتاو) وبصلة في منديل يعرف لدى أهل الريف بالمحلاوي، ولم يفهم أحد من الحضور لماذا رمى الرجل بهذه الصرة؟! إلا أنّ زعيم الفقراء كان الوحيد الذي فهم معنى الرسالة، وأطلّ برأسه بسرعة من القطار وأخذ يرفع صوته في اتجاه الرجل الذي ألقى بالصرة قائلاً له: «الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت»، وفور الوصول إلى أسوان طلب جمال عبد الناصر تقريراً عاجلاً عن عمال التراحيل وأحوالهم المعيشية، وفي خطابه مساء نفس اليوم لجماهير أسوان قال: «يا عم جابر أحب أقولك إن الرسالة وصلت، وإننا قرّرنا زيادة أجر عمال التراحيل إلى 25 قرشاً في اليوم بدلاً من 12 قرشاً فقط، كما قررنا تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي على عمال التراحيل لأول مرة في مصر».
لذلك لا عجب أن يطلق الفقراء على قائدهم جمال عبد الناصر لقب زعيم الفقراء، فقد انحاز لهم قولاً وفعلاً، واتخذ من أجلهم العديد من الإجراءات الحاسمة، ودخل في العديد من المعارك لإنصافهم، وتحمّل ما يفوق طاقة البشر من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية لكي يتراجع عن مواقفه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداعمة للفقراء في مصر والوطن العربي والعالم الثالث، لذلك حين وافته المنية خرجت جموع الفقراء حول العالم لوداعه، وما زالت ترفع هذه الجماهير صوره في كل بقاع الأرض كرمز للعدالة الاجتماعية، وفي ذكرى رحيله من كل عام نردد نفس العبارة «ما أحوج الفقراء في مصر والوطن العربي والعالم لزعيم جديد للفقراء» الذين لا يجدون من يشعر ببؤسهم في ظل سياسات رأسمالية تطحنهم من دون رحمة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.