التخبّط يسود عوكر
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
من دون لبس، كرّست حكومة نجيب ميقاتي الثالثة، قاعدةً مفادها أن لا حكومة تولد في لبنان من دون الإحتكام إلى حصص الزمرة الحاكمة، حتى الدول التي سعت لإنتاج حكومة جديدة ورسمت خطوط طول وعرض أمام طبيعة تمثيل الأطراف وحدودها ووزنها، عادت في النهاية وبنتيجة الواقعية السياسية ودهم المهل، للإحتكام إلى المنطق وبالتالي التخلي عن الكثير من ثوابتها لتسلّم بأية تشكيلة يمكن ان تُسفر عن حكومة.
هناك انطباع ساد مؤخراً يوحي بتأمين تفاهمات حيال تنازلات متبادلة توزّعت على مختلف القوى من دون استثناء تمكيناً لولادة الحكومة. تنازلات متوازنة بين جهات داخلية وخارجية بالتراضي بين أركانها، وبطبيعة الحال ثمة ضرورات تحكم ذلك: الدول الأجنبية تحيل تركيزها إلى الإنتخابات على أساس الأمل في إنتاج تغيير ما وبالتالي هي محكومة بولادة حكومة جديدة وضرورية لإنجاز ما تقدّم، بينما الأطراف الداخلية لا تريد التنازل عن امتيازاتها ومكتسباتها ضمن التركيبة، وترى نفسها بأنها لا زالت تحافظ على قدر مريح من التمثيل الشعبي وتستطيع إثبات وتفسير ذلك في الصناديق، فعقّدت الصفقة!
الدور الأميركي هنا غير بعيد عن التنازلات، ولو أن ثمة طرف ٌ يريد أن يوحي بأن الأميركيين كانوا خارج إطار التفاهم الفرنسي – الإيراني – الداخلي. عملياً، إنقلب الجانب الأميركي فجأة من فريق رافض تأليف حكومة تحظى برعاية وحضور سياسي صريح وواضح ل”حزب الله”، إلى قبول التأليف ضمن شروط محددة سلفاً كـ”تشذيب” حضور الحزب، فلجأ الفرنسيون مثلاً باتجاه البحث في قوائمهم عن شخصيات شيعية تمثل تقاطعات مع الحزب ، فكان أن وزّرت بعض الأسماء على أساس أنها محايدة أو أنها تتمتع بهوامش حيادية، قبل أن ينسف وزير الأشغال علي حمية كل ذلك، حين احتفى بشكل فاقع وعلى طريقة مناصري الحزب بـ”كسر الحصار الأميركي عن لبنان” خلال دخول صهاريج المازوت الإيراني البقاع، وحين ارتمى في أحضان الحاج محمد رعد خلال جلسة منح الثقة.
خلال تلك الفترة، انتقل الأميركيون نتيجة قراءةٍ مستجدة للواقع اللبناني، من خيار السعي لإسقاط لبنان أملاً في إلحاق الضرر ب”حزب الله”، إلى السعي خلف حلحلة الملفات الإقتصادية اللبنانية العالقة ومحاولة إحداث فجوةٍ تكفل مدّ البلاد بجرعات تحفيزية، قيل أنها تأتي في إطار مقارعة الحزب بسلاح النفط. وعلى أهمية ذلك، فلدى الأميركيين مصلحة أخرى موضوعة على رأس جدول أعمالهم، وتكمن في تهيئة فرص إنجاز الإستحقاق النيابي اللبناني وكفالة أن يتمّ ذلك في ظل ظروف هادئة نسبياً. لذا انجرّوا مرغمين إلى التراجع خطوات إلى الوراء. وفي اعتقاد الجانب الأميركي، أن الإنتخابات ستشكّل مناسبةً لإجراء تغييرات “سلوكية” لدى الفئات الشعبية وعلى مستوى التمثيل النيابي، بحيث أن ما لم يتمّ نيله في مجلس الوزراء الجديد، ثمة إمكانية لتحقيقه في مجلس النواب المقبل، من زاوية إستثمار نتائج الحصار، الذي ومن غير المتوقع أن ينتهي أجله كلياً طالما أن المواجهة مستمرة بل ستزيد، إنما سيحافظ على شكل هندسي محدد.
بطبيعة الحال، أدرك الأميركيون مؤخراً، أن الإجراءات التي تُمارس تحت عنوان “زيادة الضغط على حزب الله” إنما تطال بتأثيراتها الشرائح اللبنانية كافة. وهناك من توجّه إلى الطرف الأميركي بنصيحة للعدول عن ذلك، والطرف الأميركي بدوره أسدى نصيحةً إلى المقرّبين منه سياسياً والواردة أسماؤهم على لوائح البدلاء، من إستغلال الأحداث اللبنانية الأخيرة والتركيز على تطورات قوافل المازوت مثلاً وما شابها من تفاصيل، في محاولةٍ لتكريس منطق تحلل الدولة وانعدامها وطرح نفسهم كبدلاء سياسيين شرعيين، وهي أفضل مناسبة ممكنة للإستثمار.
يحدث ذلك فيما السفيرة الأميركية دوروثي شيا كما يُنقل، متوارية عن الأنظار السياسية منذ مدة ليتبين مؤخراً أنها كانت تمضي إجازة في بلدها وقد أوكلت بعض المهام إلى الملحق في السفارة. وعلى ما يبدو، فإن ثمة أجواء توحي بالقلق السياسي نتيجة ذلك الإنكفاء الذي لا يبدو متصلاً فقط بمسألة “تمضية إجازة” عادت تواً منها، في ظلّ ورود أنباء حول “تشذيب” حضور السفيرة بعد سلسلة التعليقات التي أوردتها في مسألة على صلة بالقضية اللبنانية، تبين أنها جاءت من تقديرات خاطئة في الشكل والمضمون وغير مستندة إلى وقائع دامغة، وقد ساهمت تلك التعليقات في إحداث فجوة سياسية وتوريط بلادها فيها، كمثل الإسراع في إعلان المصادقة على استقدام الغاز المصري والكهرباء الأردنية عن طريق سوريا بشكلٍ أوحى بمنح لبنان استثناءٍ من قانون “قيصر” تبيّن أنه لم يتأمّن بعد، وهو ما استغلّه “حزب الله” في سياق الهجمة ضد واشنطن وإظهار تخبّطها وإرساء معادلات وقواعد تدلّ إلى إلحاق خسارة سياسية بها ربما لا تجد واشنطن مصلحة منها في ظل ما ترتّب ويترتّب عن الإنسحاب من أفغانستان، مروراً بادّعاء السفيرة عن توقف بواخر تحمل مادة البنزين عرض البحر ومستعدة للتفريغ، ليثبت لاحقاً أن ما من بواخر. وما دعا لإطلاق هذا التصريح، لم يكن سوى خطوة “إعلامية” فاشلة، لم تنفع حتى في تشتيت النظر عن بواخر المازوت، بدليل أنه وإلى اليوم، لم تفرّغ تلك البواخر بأعداد كافية!