عندما يتقدّم “المجتمع المدني” على السياسيين في التحضير للانتخابات
أكثر من ستين حركة مدنية انطلقت من رحم 17 تشرين وما بعده، بينها 20 حركة جدية، يجرى العمل على توحيد صفوفها في سبيل خوض الانتخابات النيابية، أعدّ “نحو الوطن” تصوراً لتقديمه للمرشحين يتمحور حول التكفل بترشيحهم وتدريبهم على الخطابة وتنظيم اطلالاتهم على الجمهور. من خلال مروحة الاتصالات التي تجريها تقدمت على “كلنا ارادة” بالاتفاقات التي ابرمتها مع قوى وشخصيات سياسية قارب عددها العشرين حتى الساعة. المفارقة ان المنصتين باتتا مرتكزاً اساسياً لأعضاء “حزب النيابة” اي أولئك الذي يهتمون بالفوز بالمقعد النيابي أياً يكن التحالف، وهؤلاء اعدادهم في تزايد وغالبيتهم من رجال المال والاعمال. اسئلة كثيرة تستوجب وضع المنظمات والحركات الحديثة على المشرحة من التمويل الى الهدف، فضلاً عن اسماء الاعضاء المنتسبين بخلطاتها الغريبة والمؤلفة بغالبيتها من رجال اعمال لهم امتداداتهم ومكانتهم في الداخل والخارج. ويُعدّ المغتربون قبلة الحركات الناشئة، طلباً للدعم وسيعقد عما قريب مؤتمر اغترابي في سويسرا لنحو مئة شخصية لبنانية لشرح الهدف من الحركة واهدافها طلباً للدعم والمساعدة.
مفهوم المجتمع المدني
“تشكل انتخابات العام 2022 فرصة لـ”نحو الوطن” للتحدي وتغيير الواقع الراهن ووضع لبنان على المسار الصحيح بالتعويل على دور المغتربين”. تعرّف عن ذاتها بأنها “منظمة وطنية للتغيير من خلال الانتخابات غايتها جمع اللبنانيين في الشتات لدعم الجهود الرامية الى ولادة لبنان الديمقراطي”.
أما “كلنا ارادة” والتي تعود ولادتها الى سنوات خمس مضت فلا يقتصر عملها على الانتخابات، وهي تتألف “من النخب التي يمكن ان تعمل على بلورة الرؤية الجديدة اي الدستور، ومفهوم الدولة المدنية والعلاقات الخارجية ومفهوم الحياد والعقد الاجتماعي الجديد وتوزيع الخسائر…”.
بينما يقول “نحو الوطن” بصراحة انه منصة للعمل السياسي الانتخابي فإن “كلنا ارادة” بدأت كمجموعة مهتمين بالشأن العام لكنها اختارت ان تكون هي الاخرى جزءاً من المجتمع السياسي، ولو عرّفت عن نفسها على انها “مجموعة عمل وفكر مدنية تهدف الى التغيير السياسي في لبنان ولا تبغي السلطة”. فكلاهما يطلان من منصة المجتمع المدني ما يطرح السؤال مجدداً عن مفهوم المجتمع المدني في لبنان، انطلاقته في لبنان واهدافه؟
يؤكد المدير التنفيذي البير كوستانيان أن “كلنا ارادة” مجموعة عمل وفكر مدنية تهدف الى التغيير السياسي في لبنان ولا تبغي السلطة. تنطلق من مجموعة من النخب التي يمكن ان تعمل على بلورة الرؤية الجديدة. ليست حزباً ويُمنع على المنتسبين لها الترشح للانتخابات”. يهمه التأكيد على كونها انطلقت قبل خمس سنوات، وكانت المنظمة المدنية الوحيدة المدعوة الى مؤتمر “سيدر”، لكن انطلاقتها اليوم تظهرها كحركة جديدة والفضل في ذلك يعود الى ما بعد 17 تشرين وفورة التغيير الذي صار ملحّاً. “أبعد من الانتخابات” فإن المنظمة “تساعد في وضع رؤية تغييرية للبلد لها جوانب عدة، وطالما ان المشكل سياسي قبل اي شيء آخر فنحن ارتأينا وضع رؤية سياسية، بعدما تهدمت ركائز النظام السياسية والاقتصادية والسيادية الذي نعيش فيه”. يدرك انها عناوين فضفاضة لكنه يقول: “سنعمل عليها بطريقة هادئة مع المعارضة والاحزاب الناشئة”. ولكن هل تشمل المعارضة احزاباً كانت جزءاً من السلطة وانتقلت الى المعارضة مؤخراً؟ يقول: “لسنا مخولين التصنيف ومعيارنا كم ان هذه الاحزاب اليمينية او اليسارية او الوطنية ملتزمة او لديها رؤية للبنان قريبة من رؤيتنا، وتتمتع بالمصداقية في العمل السياسي ولا تدخل ضمن المحاصصة”. مشيراً الى حوار انطلق مع “الشيوعي” ومع حركة “مواطنون ومواطنات” وغيرهما من القوى السياسية.
ليس كل مدني جيد
ما يتحدث عنه كوستانيان يعد بمثابة برنامج سياسي بعيد المدى ما يطرح السؤال حول امكانية ان تكون “كلنا ارادة” حركة مدنية وفقاً للمتعارف عليه. “ففي لبنان وبمجرد ان اي مجموعة اختارت خوض الانتخابات أو دعمت مرشحين، لا تعود مجموعة مدنية بل تصبح مؤسسة سياسية”، وفق ما يؤكد الوزير السابق زياد بارود، محاولاً تصحيح “ذاك الخطأ الشائع ان هناك احزاباً وهناك مجتمعاً مدنياً، والحقيقة ان هناك احزاباً ومجموعات احزاب جديدة انبثقت من حركة 17 تشرين ولم تعد مجتمعاً مدنياً”. بحسبه “يمكن لمجموعات المجتمع المدني ان تتحول الى مجموعات سياسية لكن شرط ان تعترف بتحولها هذا، وهو تحول مشروع يجب خوضه من دون خجل”.
يعتبر الوزير السابق زياد بارود ان فكرة المجتمع المدني “انطلقت من مفهوم خطأ وهو ان كل مدني جيد. ارتباط كل ما هو سياسي بالميليشيات والمحاصصة والسلاح جعل المدني أنظف من دون حكم معمم. لكن ليس كل الاحزاب هكذا. خلال الحرب وبعدها كان الانطباع وكأن المجتمع المدني أنظف وأكثر عبوراً للطوائف وأكثر اختصاصاً، وقد تشكل رأي عام على هذا الأساس واستمر حتى العام 2015 المفصلي، بحيث بدأ المجتمع المدني يخوض حملات ويتخذ طابعاً سياسياً”.
وتشير المراحل التي قطعتهما “كلنا ارادة” و”نحو الوطن” تحضيراً للانتخابات، الى وجود زخم عمل ولقاءات تفوق حركة الاحزاب التقليدية بأشواط. ليس لدى المنصتين مرشحون لكن الطرفين يسعيان لدعم مرشحين للنيابة ويدخل ذلك في صلب عملهما. وتجرى نقاشات لتوحيد صفوفهما والعمل سوية على اعداد ماكينة واحدة. وقد بوشرت الاتصالات بعدد من الاحزاب والمرشحين بمن فيهم القوى السياسية المحسوبة على 8 آذار او القريبة منها، وممّن يتم التواصل معهم، النائب المستقيل ميشال معوض والنائب اسامة سعد و”الحزب الشيوعي”. وهناك جهات تمّ التواصل معها اعلامية وسياسية منهم من سيتم الاجتماع به، ومنهم من رفض الانضمام لإحدى المنصتين امثال شربل نحاس او “الحزب الدستوري”. وتشهد المنصتان نقاشات حامية في ما بين اعضائها حول الأشخاص او الاحزاب التي يمكن التعاون معها والعمل من اجل ايصالها الى البرلمان، ناهيك عن الاختلاف بين توجه “نحو الوطن” عن “كلنا ارادة”، فهناك احزاب لا يمكن لمنصة “نحو الوطن” تحمّلها مثل “حزب الكتائب” او اشخاص من حلفاء السوريين سابقاً او دخلوا في تكتلات حزبية. بينما تبدي “كلنا رادة” انفتاحاً على الجميع. وبعد اللقاءات التي عقدت لمجموعات من الثورة والتي تحضّر لبناء ائتلاف انتخابي في ما بينها، يمكن التحدث عن وجود ثلاث منصات تستعد للانتخابات المقبلة هي:
اليسار القدامى والجدد، وجبهة المعارضة اللبنانية أي “الكتائب” وميشال معوض ونعمة افرام، ومنصة “نحو الوطن” ومعها “كلنا ارادة”، ومجموعات من حركات تشكلت بعيد 17 تشرين. ثمة حوار يجمع افرادها ولو لم يتوفر معيار واحد يسيرون على اساسه، فضلاً عن الانقسامات التي تسود في ما بينهم والخلاف على البرامج، ووضع المعارضين داخل المجموعات الشيعية لا يزال محدوداً، والسنة مشاكلهم كثيرة، فلم يعد الا الساحة المسيحية للتنافس، وسيتم العمل على تجييش الفئة الرمادية ونسبتها 15 بالمئة، ووضع هؤلاء لا يمكن حسمه قبل 8 اشهر من الانتخابات.
تحاكي حركات “المجتمع المدني “المسيّسة” حاجة اللبنانيين الى التغيير وتدغدغ توقهم للتخلص من الطبقة السياسية الراهنة التي اوصلتهم الى الهاوية، غير ان المخيف ان هذه الجمعيات والحركات لم تنسخ عن هذه الطبقة السياسية ولم تخرج بأسماء جديدة بعيدة عنها، بدليل ان المؤسسين لها او العاملين في عدادها غير بعيدين عن الاحزاب او كانوا منتمين لها، ناهيك عن وجود ابناء لسياسيين تقليديين ممن سيتم العمل عليهم او مرشحين محسوبين على احزاب تقليدية وان لم تكن من حملة السلاح اليوم، لكنها كانت جزءاً من السلطة وتتمتع بخيراتها. كما ان البرامج لم تخرج بأكثر من عناوين تقليدية تفتقد القدرة على البلورة على المدى المنظور. من المبكر الحكم بعد ولكن ان نجحت هذه القوى في توحيد صفوفها فهدفها خوض الانتخابات وخرق اللوائح المنافسة، لتشكيل لائحتها في البرلمان بعد الفوز مستفيدة من هفوات احزاب السلطة وخلافاتها. جدية العمل لا تلغي التشكيك وتبقى العبرة في النتائج.