لماذا رضي الأميركيون بهذه الحكومة؟
طوني عيسى-الجمهورية
لعلّ التوصيف المتداول الأكثر دقَّة للحكومة الجديدة هو الآتي: ثُلثٌ لـ»حزب الله»، ثُلثٌ لحلفاء «حزب الله»، وثُلثٌ للذين يهابون «حزب الله». طبعاً، في هذا التوصيف بعض المبالغة على سبيل النكتة، ولكنه صحيح إلى حدّ بعيد. وهكذا، حُسِمت عقدة «الثلث المعطِّل» التي رافقت التأليف. وتبين أنّ لا ثلثَ معطّلاً حقيقياً لا لعون ولا لميقاتي، ما دام أحد لا يستطيع استخدام الثُلثِ المعطِّل، ولو امتلكه. فتعطيل الحكومة أو إسقاطها هو سلاح استراتيجي، وممنوع استخدامه إلاّ بقرار استراتيجي.
عملياً، تمكَّن الإيرانيون من تشكيل حكومةٍ في لبنان، يتمتعون فيها بالقرار، مع دعمٍ أوروبي وعربي لها، وموافقة أميركية. لقد لعبوا على حافة الهاوية ببراعة، وبنفَس طويل، ونجحوا في دفع الخصوم إلى الإرباك والخوف.
وفي الأيام الأخيرة، تمادى الإهتراء إلى حدود قاتلة، وساهم «الكباش» الأميركي – الإيراني في تكريسه. واقترب البلد من حافة انفجار أمني ينذر بفتنةٍ طائفية أو مذهبية تبدأ ولا تنتهي.
ولذلك، جاء الضوء الأخضر لولادة حكومة «بأي ثمن»، منعاً لانزلاق لبنان إلى التفكّك ثم الفتنة. فكانت الولادة عاجلة، واستبقت لحظة الانفجار الكبير التي يمكن أن تكون هي نفسها لحظة رفع الدعم.
ضمناً، هذه الحكومة أُعطيت فرصةً كتلك التي أُعطيت لحكومة حسان دياب. وفي أي حال، الحكومتان متشابهتان لجهة الوظيفة: وقف الانهيار، وفي التركيبة المحيّرة السياسية – التكنوقراط، وفي كون القرار الغالب فيهما لـ «حزب الله» وحلفائه.
الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون والعرب سلّموا القرار في لبنان، ولو ظرفياً، لإيران. وتبين أنّ حصارهم لم يُضعِف «الحزب» ولم يدفع ببيئته إلى الانتفاض عليه، لأسباب شتى. وعلى العكس، هو أصاب البيئات اللبنانية الأخرى وأنهكها، فيما «الحزب» بقي يتمتع بالدعم الخارجي. وهكذا، كسبت إيران المعركة مجدداً.
منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى البيت الأبيض، أدرك الإيرانيون أنّ الرئيس جو بايدن لن يخوض المواجهة معهم، وأنّ نهج الرئيس باراك أوباما هو الذي سيعتمده في الشرق الأوسط. لذلك، تصلّبوا في مفاوضات فيينا وطالبوا بايدن بتصحيح «خطأ» دونالد ترامب والعودة إلى الاتفاق النووي بلا شروط. كما رفضوا الدخول في مساومات حول النفوذ الإقليمي والصواريخ البالستية. وفيما هم يواصلون بناء قدراتهم النووية، يتَّجه الأميركيون إلى الانسحاب من المنطقة، بدءاً من الانقلاب الذي خلَّفوه في أفغانستان، وصولاً إلى العراق وسوريا.
في هذه «الحَشْرة» بين الولايات المتحدة وإيران، يبحث الفرنسيون والعرب عن مواقع لهم، لئلا يخرجوا من اللعبة من دون أي مكاسب:
1- الرئيس إيمانويل ماكرون أدرك أنّ لا مكان لباريس كشريك في الملف اللبناني، وأصابته الخيبات منذ العام 2018، وخصوصاً منذ انفجار 4 آب. واقتنع بأنّ أركان اللعبة الأقوياء ثلاثة: الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل، وأنّ أقصى طموحه أن يحجز لنفسه موقعاً وحصة في التوافقات الكبرى.
فالأميركي والإيراني والإسرائيلي يفضّلون إبرام الصفقات مباشرة في ما بينهم، لأنّ الفرنسي لا يملك الثمن المطلوب. ولذلك، رضخ ماكرون للواقع واضطلع بدور الوسيط، حافظاً حصته من التسوية سياسياً واقتصادياً ومعنوياً.
2- السعوديون جرى إشغالهم بالخاصرة اليمنية، فباتوا ميّالين إلى الحدّ من مبادراتهم الإقليمية. ولذلك، هم يضبطون خطواتهم على وقع المفاوضات الجارية مع إيران في بغداد، بوساطة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي زار طهران قبل يومين.
3- المصريون، كذلك، تراجعت قدرتهم على المبادرة إقليمياً بعد مأزق «سدِّ النهضة».
ويفترض بعض الخبراء أنّ الإسرائيليين وجدوا طريقة للمحافظة على مصالحهم وسط هذه المعمعة. ويستدلون إلى ذلك بأنّ باخرة النفط الإيرانية عبرت البحر الأحمر وقناة السويس ودخلت المتوسط حيث رست على الشاطئ السوري، من دون أي اعتراض إسرائيلي، وطبعاً أميركي.
كما أنّ دمشق التي وافق الأميركيون على تخفيف حدّة العقوبات عن نظامها، مقابل تسهيل إيصال الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان، هي نفسها ستتولّى تزويده النفط الإيراني برّاً. ولم يُسمَع حتى الآن أي اعتراض على دورها، لا من الأميركيين ولا من حلفائهم الإقليميين.
يعني ذلك، بما لا يقبل الشك، أنّ هناك «قطبة مخفية» حول لبنان، في مكان ما بين الأميركيين والإيرانيين، بموافقة إسرائيلية ومساعٍ فرنسية، وباقتناع القوى العربية الأساسية، وستظهر ملامحها أكثر فأكثر، وتنعكس على لبنان. ولكن، من المبكر الاستنتاج إذا كان الانعكاس سلبياً أو إيجابياً.
وللتذكير: لبنان يتجّه إلى الأسد مجدداً وإلى اتفاقية التعاون والتنسيق، بعد الانهيار، لأنّ لكل شيء ثمناً. فيما الأسد نفسه قد يكون متجّهاً إلى مناخات أخرى على مستوى التسويات الإقليمية (مصر، الأردن، الخليجيين العرب وربما إسرائيل) واحتمال العودة إلى الجامعة العربية، بعد الحرب المدمّرة. وهنا أيضاً، لكل شيء ثمن.
إذا سلك المناخ الإقليمي نحو التبريد، وطبعاً إذا وجدت إرادة العمل في الداخل، فربما تستفيد حكومة ميقاتي من ذلك وتوقف الاهتراء عند حدود معينة. وإلّا فالبلد سيدخل في مراحل جديدة من الانهيار، أكثر شناعة.