بانت في أحداث درعا الأخيرة، ملامح التدخّل الإسرائيلي في شؤون المحافظة السورية الجنوبية، من خلال مطالب المسلّحين في بعض مراحل التفاوض – حتى عندما صار خيار الحسم العسكري جدّياً -، والتي كانت عبارة عن مطالب إسرائيلية في العمق، تمثّلت بـ«منع دخول الفرقة الرابعة في الجيش السوري، والقوات الموالية لإيران وحزب الله اللبناني إلى درعا»، مشترطةً «انسحابهم من كامل المنطقة الجنوبية»، كما حملت رسائل أوصلها وسطاء محلّيون إلى المفاوضين في الشرطة العسكرية الروسية. ومع أنه، ومنذ تسوية صيف 2018 في الجنوب السوري، لا وجود – علنياً على الأقلّ – لأيٍّ من المستشارين الإيرانيين ولا لعناصر من «حزب الله»، إلّا أن ذلك ليس كافياً وفق الحسابات الإسرائيلية، إذ يربط العدوّ بين ما يجري في القنيطرة على الحدود مع الجولان المحتلّ، حيث يستهدف باستمرار «مواقع ومراصد تابعة لحزب الله وإيران»، بحسب زعمه، وما يمكن أن تصبح عليه كل منطقة الشريط الحدودي مع الجولان، من القنيطرة إلى أقصى ريف درعا الجنوبي الغربي، في حال سيطر الجيش السوري بشكل كامل على هذه المحافظة، وتحرّر من قيود تسوية 2018، وما تفرضه من وقائع ميدانية وخريطة انتشار عسكري تتناسب مع مصالح الجانب الإسرائيلي، كونها تَمنع، على سبيل المثال، الجيش السوري من استخدام طائراته الحربية في المنطقة الجنوبية.
وقبل أيّام قليلة، وبعد جولات طويلة من التفاوض، والذهاب نحو تنفيذ الاتفاقات على الأرض، والتعثّر، ثمّ العودة إلى التفاوض، والترنّح بين الاستمرار في جهود التسوية أو الذهاب نحو الخيار العسكري، نجح الأطراف، مبدئياً، في تطبيق مراحل أولى من اتفاق جزئي، يتعلّق ببعض أحياء درعا البلد، وليس كامل أحيائها حيث يرابط المسلحون (حيَّي المخيّم وطريق السدّ)، رافضين أيّ تسوية. وبموجب هذا الاتفاق، دخلت قوات من الشرطة العسكرية الروسية إلى درعا البلد، ليتبعها لاحقاً عناصر من الأجهزة الأمنية السورية والجيش.

الدور الروسي في ضمان «أمن إسرائيل»
ليس خافياً أن تسوية 2018، والتي قَبِل فيها الجيش السوري باعتبارها أفضل الخيارات المتاحة في حينه، تمّت برعاية و«ضمانة» روسيتين، وذلك بعدما توافقت موسكو مع كل من واشنطن وتل أبيب وعمّان وأبو ظبي، على أنها «ستضمن سلامة المسلّحين المنضوين في التسوية، وتسوية أوضاعهم الأمنية، وإلحاق من يرغب منهم بالفيلق الخامس التابع للروس، وكذلك احتفاظ عدد كبير منهم بسلاحه الشخصي، وإخفاء عدد غير قليل من السلاح الثقيل»، بحسب مصدر عسكري قياديّ مطلع على مسار التسوية، إضافة إلى «تحديد نقاط انتشار الجيش السوري في المنطقة الجنوبية، ومنعه من الدخول إلى مناطق التسوية بشكل كامل، والاكتفاء بحواجز بسيطة على بعض الطرق».

وفي جميع المراحل، من التفاوض إلى التعثّر ثم بدء التطبيق، كما تسوية 2018، كان العامل الأبرز هو رؤية الجانب الروسي لمسار الأمور في المنطقة الجنوبية، حيث أظهرت التطوّرات الأخيرة في درعا، أن الأخير لا يزال ضامناً لمصالح العدو الإسرائيلي بشكل أساسي، عبر الالتزام بعدم تجاوز الخطوط الإسرائيلية الحمر، بالتالي منع الجيش السوري أيضاً من تجاوزها. وبحسب مصادر عسكرية سورية شاركت في المفاوضات الأخيرة حول أحياء درعا البلد، فقد «حاول ضبّاط الجيش الميدانيّون، عدّة مرات، الدفع نحو عملية عسكرية حاسمة بعد التعثّر المتكرّر لتطبيق الاتفاقات، إلّا أن الموقف الروسي المتشبّث بالتسوية حال دون ذلك في كل مرّة». وفي المرّة الوحيدة التي حاول فيها الجيش التصعيد عسكرياً بعد فشل التطبيق، عبر استهداف مواقع للمسلّحين في درعا، تعرّضت قواته المنتشرة على الحواجز في أرياف درعا إلى هجمات من قِبَل مسلّحي المنطقة، ووقع عدد منهم في الأسر، ما أوقع صدمة في صفوف ضباط الجيش الذين فوجئوا بالتصعيد، كون المهاجمين منضوين في إطار «مسلّحي التسوية» الذين يضمنهم الجانب الروسي، ولم يكن متوقعاً أن يكونوا على هذا المستوى من التنسيق الميداني مع مسلحي درعا البلد. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ بعد أسر الجنود السوريين، دخلت الشرطة العسكرية الروسية على خطّ الوساطة مع الفصائل المسلحة (الذين تضمنهم) لتحرير الجنود الأسرى، وكان ثمن تلك الوساطة هو تأكيد روسي للقيادة العسكرية السورية أن «لا مجال لعملية عسكرية، والحلّ هو في التسوية السلمية». وفي المحصّلة، لم يحصل ما أراده المسلحون ومَن خلفهم، ولا ما أرادته الحكومة السورية، إذ «دخلت إلى درعا البلد، قوات من الفرقة الخامسة والفرقة 15 قوات خاصة، واللواء 16 اقتحام، وعناصر وضباط من وزارة الداخلية»، بحسب مصدر ميداني تحدّث إلى «الأخبار». إلّا أن الفرقة الرابعة، والتي يتّهمها العدو الإسرائيلي بتأمين الغطاء لعمل «حزب الله» والمستشارين الإيرانيين في المنطقة الحدودية، انسحبت من مواقعها وتراجعت إلى الأطراف الشمالية للمحافظة، تطبيقاً للاتفاق.
لا يزال الموقف الروسي يقف عائقاً أمام حسم أمر المنطقة الجنوبية بشكل كامل؛ فأسلوب التسويات الذي اعتُمد جنوباً قبل ثلاث سنوات، لم يفضِ إلى إرساء استقرار ثابت في المنطقة، بل على العكس من ذلك، أبقاها ساحة للتقاتل وتنفيذ مئات عمليات الاغتيال والتفجير التي طاولت كل الأطراف، وبشكل خاصّ ضباط وعناصر الأجهزة الأمنية الحكومية. كذلك، تقف التسويات حائلاً أمام إعادة انتشار الجيش السوري في المنطقة الجنوبية، وتنظيم عمله بما يلبّي الحاجات العملياتية لمواجهة أيّ اعتداء من قِبَل العدو الإسرائيلي المتموضع في الجولان المحتلّ. ومن جهة أخرى، لم تحُل «الضمانات» الروسية دون تنفيذ العدو الإسرائيلي عمليات استهداف لمواقع عسكرية متنوّعة للجيش السوري في المنطقة الجنوبية، وتنفيذ عمليات اغتيال تستهدف ناشطين عسكريّين من القوات المحلية في منطقة القنيطرة. وفضلاً عن ذلك، سُجّلت، في الأشهر الأخيرة، عمليات توغّل لقوات العدو مرات عدّة داخل الأراضي السورية، بهدف تنفيذ مهامّ متنوّعة تتوزّع بين الرصد وجمع المعلومات، وتنفيذ عمليات ذات طابع أمني.