تحقيقات - ملفات

إدارة الدين وتحدّي”نموذج” طالبان السنّي! (1/2)

 

رضوان السيد -أساس ميديا

أذكر أنّ المرّة الأولى حين سألتُ نفسي وقرّائي عن قدرات التقليد الديني السنّيّ على ضبط العنف باسم الدين، كانت في مقالةٍ بعنوان: “الإسلام والعنف” عام 1981 بعدما قتل تنظيم “الجهاد” الرئيس المصري أنور السادات. وقد بدأتُ المقالة بلوم النفس للتأخّر في التنبّه للظاهرة وخصوصيّاتها، لأنّ تنظيماً مُشابهاً كان قد قتل أستاذنا القديم بالأزهر الشيخ محمد حسين الذهبي عام 1977، والذي كان يدرّسنا مادّة التفسير القرآني، قبل أن يُعيّن وزيراً للأوقاف. قالت وسائل الإعلام المصرية وقتها إنّ القتلة ينتمون إلى تنظيم “التكفير والهجرة” (أمّا هم فكانوا يسمّون أنفسهم “جماعة المسلمين”).

لماذا بدأ هؤلاء أعمالهم العنيفة بقتل شيخٍ بارز في المؤسسة الدينية التي ما كان رجالاتها يمارسون عملاً سياسياً، لكنّهم كانوا بالطبع مع الدولة الوطنية المصرية، ويحرّمون ممارسة العنف ضدّ السلطات.

يومها كان الملالي الإيرانيون قد أسقطوا الدولة الوطنية في بلادهم (1979)، وانصرفوا إلى تصفية سائر الفئات الحديثة في المجتمع الإيراني، بعدما أوهموا الشباب والشيوخ المعارضين لحكم الشاه أنّهم سيبنون الدولة الجديدة معاً.

بقتل الرئيس السادات بعد قتل الشيخ الذهبي، كان ينبغي أن ندرك أنّ المتطرّفين السنّة كانوا يحاولون تقليد ثوّار الملالي في المجال السنّي بمصارعة الدولة الوطنية من أجل إسقاطها، والتمهيد لذلك بضرب ما كانوا يعتبرونه مستندها الديني للمشروعيّة، وهو الأزهر ورجالاته ومؤسساته وتقليده العريق في القول بالحكم المدني. ولا ينبغي أن ننسى أنّه قبل اغتيال الرئيس السادات بعامٍ واحدٍ، أغار جهيمان العتيبي على البيت الحرام في محاولةٍ أيضاً لضرب الدولة ولو بالتعرّض لأقدس الأقداس: { .. ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلمٍ نُذِقْه من عذابٍ أليم} (سورة الحج : 25). بل وقبل عامٍ من حدث جُهيمان، أي في عام الثورة الإيرانية، تدخّل الروس في أفغانستان، وبدأت أعمال “المجاهدين” ضد الغُزاة السوفيات بدعمٍ من الولايات المتحدة.

كان الدين بشيعته وسنّته في حالة ثوران على الدولة الوطنية “المتغرّبة”، وقاد الملالي الإيرانيون الحملة عليها، فيما كانت المؤسسة الدينية السنّيّة مصرّةً على البقاء بجانب الدولة الوطنية في العالم الإسلامي السنّيّ، وهو الأمر الذي يأباه المتطرّفون ويريدون ضربها أو تحييدها في مساعيهم إلى إزالة المشروعيّة الدينية للدولة أو الدول القائمة، بدعوى أنّ علماء المؤسسة هم فقهاء السلطان.

وبالطبع ما كنتُ عام 1981 أُحيط بذلك كلّه أو بعضه، بل الخطّ الرئيس الذي كان في خَلَدي يومها: ضرب التقليد القائم للانسجام بين الدين والدولة في العالم السنّيّ: فهل يستطيع التقليد السنّيّ مقاومة صعود العنف باسم الدين؟ وهل تستطيع الدولة الوطنية العربية والإسلامية الصمود في وجه العنف الموجَّه ضدها باسم الدين؟

 

مشكلات في التقليد السنّيّ

لقد استغرق الأمر قرابة ثلاثين عاماً حتى استطعت تقديم إجابةٍ أوّليّةٍ على السؤالين الخطيرين. إنّما خلال ثلاثة عقودٍ ما انصرفتُ إلى دراساتي الكلاسيكية وحدها، بل كتبتُ: الإسلام المعاصر (1986)، وسياسيات الإسلام المعاصر (1997)، والصراع على الإسلام (2004). لكنّها كانت دراسات تحليلية واستعراضية وتصنيفية. فقد سمّيتُ الصحويات والجهاديات: حركات إحيائية، خرجت على التقليد الديني، وخرج بعضها على الدين نفسه وإنْ ظلّ يتحدّث باسمه. ومع أنّ الصراع كان يدور بينها وبين الدول الوطنية والعالم الدولي، لكنّ التقليد الديني المؤسّسي، على الرغم من التجديد الكبير الذي دَاَخَلَهُ، ظلّ قاصراً عن إعادة الانضباط ضمن كلّيّات الدين، و”أعراف الجماعة”، وبالذات: الإسهام في وقف العنف بالداخل، والعدوان باسم الدين على الآخر والخارج.

في عام 2009، نشرتُ دراسةً بعنوان: “سياسات الدين في أزمنة التغيير” (1). استظهرتُ فيها أنّ الدول الوطنية في العالم العربي لن تسقط، وإنْ داخَلَ بعض إدارتها التعثّر، ولا بدّ من جهودٍ كبرى لتجديد التجربة بالإصلاح السياسي. أمّا التقليد الديني السنّيّ فهو يعاني من مشكلاتٍ خطيرة، وليس لأنّه ما استطاع الإسهام الجدّيّ في إخماد العنف باسم الدين فقط، بل ولأنّ المسمَّيْن بـ”الجهاديّين المجرمين” لا تزال لهم شعبية بين الشبان. إنّما التحدي الكبير للتقليد الديني والسياسي السنّيّ يتمثّل في الصحويات (الإخوان والحركات المشابهة) لأنّ لديهم تأييداً معتبراً في أوساط متعلّمين كثيرين. الجهاديات ستخمد وستخلّف جراحاً غائرة في جسم الإسلام السنّيّ. أمّا الصحويات فلها مستقبل إنْ لم يحصل احتضانٌ متبادلٌ بين المؤسسات الدينية والدول الوطنية يؤدّي إلى إصلاح سياسي وآخر ديني لاستعادة الثقة. وقد حصل شيء من ذلك في عقد مكافحة الجهاديات الإجرامية، وازدادت المؤسسات تأهّلاً وقدرةً على التأهيل، لكنّ “السكينة الدينية” لم تُستعَدْ، والدول الوطنية المستقرّة لا تزال تطالب المؤسسات الدينية بإلحاحٍ بتجديد الخطاب الديني، فيما يطالبها المثقّفون والإعلاميّون بتجديد الفكر الديني، وهما أمران مختلفان على الرغم من التداخل.

لقد جزمتُ في عزّ سطوة الإسلاميين الجهاديين والصحويين (2012-2016) أنّه لن تقوم دولةٌ دينيةٌ في العالم العربي (فصلان في كتابي: أزمنة التغيير)، ويمكن أن تقوم في العالم الإسلامي غير العربي، لكنّها لا تلبث أن تتحوّل إن لم تدخل البلاد في حروبٍ داخليّةٍ لا تنتهي. فلنستعرضْ حالة طالبان وأفغانستان، ثمّ نعود إلى موضوع إدارة الدين وسياساته.

 

طالبان صناعة باكستانيّة

طالبان صُنِعت مرّتين في باكستان. مرّة عام 1994، ومرّةً أُخرى بعد عام 2008. وباكستان ليست بلاداً إسلاميةً فقط، بل هي أقاليم انشقّت عن الهند من أجل حفظ الهوية الدينية لمناطق الكثرة الإسلامية النسْبيّة فيها. وبالطبع، فإنّ المؤسسة الدينية التقليدية كانت مع النخبة (الرابطة الإسلامية بالسند) التي قامت بالانفصال بمساعدة البريطانيين، وأقامت الدولة. لكنّ حركات “الهوية” الدينية لا تستطيع إنشاء دولٍ دينية في العالم الحديث (باستثناء إسرائيل وإيران حتى الآن). ولذلك ما أمكن حتى صَوغ دستور إسلامي للدولة، وسادت فيها القوانين المدنية، ثمّ انقسمت إلى دولتين تحت وطأة الثنائية القومية (باكستان وبنغلادش). لا يستطيع الإسلام السنّيّ بالذات بسبب عالميّته وشسوعه وتنوّعه أن يصبح أيديولوجيا قومية لدولةٍ مهما حاولت نُخبها. وبسبب الهشاشة البنيويّة للدولة بين مطالب الهوية التي لا تنفد، وضرورات الواقع، ظلّ تماسكها قائماً على الجيش والاستخبارات القوية والعالية الكفاءة. وبالطبع عرفت ولا تزال صحويات (الجماعة الإسلامية) وجهاديات متعدّدة، لكنّ الاستخبارات تضبط حركتها جميعاً. وإنْ شئنا الدقّة فإنّ المشكلات مع الهند وقضية كشمير بينهما، ربّما كانتا بين الأسباب المهمّة لبقاء باكستان، بل وحصولها على القنبلة النووية. وقد كان من حسن حظّها اختيارها جانب الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وعندما اتّجهت الولايات المتحدة إلى الهند في العقود الأخيرة، اتّجهت باكستان إلى الحضن الصيني.

وقد كانت لباكستان اهتماماتٌ بأفغانستان المجاورة لأسباب أمنيّة، وللتداخل القَبَليّ والإثني بينهما. ومن الناحية الدينية، فهم جميعاً سُنّة وعلى المذهب الحنفي. إنّما كان من حسن حظّ باكستان أو سوء حظّها أنّه عندما جاء الروس إلى أفغانستان عام 1979 لدعم الانقلاب الشيوعي هناك، وأرادت الولايات المتحدة مصارعة الروس هناك أيضاً، فإنّ باكستان كانت هي “طريق الجهاد”. فقد مرّت فيها معدّات وإعدادات بمئات المليارات، وهناك تنظّمت وتسلّحت تنظيمات “المجاهدين”، بحسب تعبير الرئيس رونالد ريغان. ثمّ آوت باكستان ملايين اللاجئين الأفغان بسبب الغزو الروسي. وبالطبع، من هناك، من بيشاور بالذات، مرّ “المجاهدون العرب” العظام، بل وكلّ الذين جاءوا للتدريب من بلدان آسيا الوسطى والقوقاز والبوسنة وروسيا (الشيشان وداغستان.. إلخ) وحتى أويغور الصين. وهكذا، فإنّ الاستخبارات الباكستانية شاركت أوّلاً في صناعة المجاهدين الأفغان (وهم بحسب تصنيفي خليطٌ من المتطرّفين والجهاديين والصحويين ورجالات القبائل الباحثين عن العمل والكسْب، وأخيراً الوطنيين الذين أرادوا الإسهام في تحرير بلادهم من الروس، كما فعل أجدادهم في مواجهة الروس والبريطانيين في القرن التاسع عشر). وهؤلاء جميعاً صاروا عبئاً على الولايات المتحدة، وعلى باكستان بالدرجة الأولى، بعد انسحاب الروس عام 1988-1989، وسقوط حكومة نجيب الله الشيوعية عام 1992. لكنّ الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة، ما اهتمّت كثيراً بمصائر هذه التجمّعات، وكان على كلّ جماعةٍ أن تدبّر نفسها، وقد توزّع غير الأفغان منهم في أصقاع الأرض كما هو معروف، وأحدثوا من الاضطراب ما لم تُدرَكُ أبعاده الكاملة حتى اليوم، وهو ما صار يُعرفُ بيقظة الإسلام (!) السنّيّ، لأنّ الباحثين والاستراتيجيين اهتمّوا بالقاعدة ومصائرها، وما اهتمّوا بالدرجة نفسها للآخرين. أمّا “المجاهدون” الأفغان، فقد انصرفوا للتصارع (وهم أكثر من خمسة عشر فريقاً، بالإضافة إلى مئات الفرق “الثورية” المحليّة) على احتلال المدن والبلدات بحسب الإثنيّة التي ينتمي كلٌّ منهم إليها. وعندما وصل الاضطراب إلى الدواخل الباكستانية، جنّدت لهم باكستان طلاب المدارس الدينية عندها من ذوي الأصول الأفغانية، وقد قُدِّروا وقتها بحوالى أربعين ألفاً، دخلوا على دفعات بقيادة ضباط باكستانيين، وبأسلحة خفيفة ومتوسّطة (1994-1996)، فانهزم “المجاهدون” أمامهم لافتقارهم إلى السلاح، بل وإلى دوافع القتال بعد ذهاب الروس والأميركيين وتجارة العتاد الضخمة والتضييق على تجارة المخدِّرات وقطع الدولارات المتدفّقة. وفي العام نفسه (1996) أتى إليهم للمرّة الثانية أسامة بن لادن، وبدأت الجماعات من بقايا “الأفغان العرب” تتجمّع من حوله لفقد الملاذات الأُخرى. أمّا لماذا قبلوه وتحمّلوا فيما بعد ما تحمّلوا في سبيله فهو أمرٌ من الألغاز الكبار. فهم أعداء ” الجهاديين” وليسوا أحباباً للسلفيين ولا حتى للإخوان. وما اعترف بسلطتهم أحد غير باكستان. لكنّ الجميع اطمأنوا أنّهم خزّنوا وعزلوا أهل المشاكل هؤلاء في تلك الجبال والوديان السحيقة، إلى أن فاجأت الجميع “غزوة” أسامة بن لادن لنيويورك وواشنطن عام 2001.

 

—————

(1) أعدتُ نشرها في كتابي: أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي (2014).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى