سلامة يكشف جريمة السياسيين: كلكم متورطون معي
لم يكذب سلامة حين أعلن في المقابلة أن الجميع كان يعلم أن الأمور تتجه إلى وقف الدعم بالطريقة التي حصلت. التيّار الوطني الحر، ممثّلٌ أساساً بعضوين في المجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي اتخذ منذ زمن قرار عدم المساس بالاحتياطات الإلزاميّة. علماً أن التيار يضع يده أيضاً على موقع مفوّض الحكومة لدى المصرف، بعد تعيين كريستال واكيم في هذا المركز في جولة التعيينات الأخيرة، وهو موقع يسمح بمراجعة جميع قرارات المجلس المركزي وعرقلتها إذا لزم الأمر. ومن هنا، يمكن فهم إشارات سلامة المتكررة خلال المقابلة إلى دور المجلس المركزي في اتخاذ هذا القرار، لا بل إشارته أيضاً إلى إمكان عكس قرار وقف الدعم بمجرّد موافقة المجلس المركزي على ذلك. ولم يكن سلامة يحاول فقط رفع مسؤوليته عن وقف الدعم، بل أيضاً توريط القوى السياسيّة الممثلة في هذا المجلس معه، وتحديداً التيار الوطني الحر وحركة أمل اللذان يملكان معاً أربعة من أعضائه السبعة. علماً أن سلامة زاد من تركيزه على دور هذا المجلس منذ حصول التعيينات الأخيرة، في محاولة تغطية قراراته ومعالجاته المتعلّقة بالانهيار المالي.
عمليّاً، ذهب سلامة في المقابلة أبعد من ذلك في توريط القوى السياسيّة، من خلال إشارته إلى مساس المجلس بالاحتياطي الإلزامي بمجرّد إقرار قانون يسمح بذلك في مجلس النوّاب. وحرص الحاكم على تكرار هذه النقطة في أكثر من جزء من المقابلة. وهنا بدا أن سلامة يدرك جيّداً أن موازين القوى داخل المجلس النيابي لا تسمح أساساً باتخاذ قرار كهذا، في ظل رفض الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة هذا الأمر. لا بل كان من الواضح أيضاً أن سلامة يدرك أن باسيل نفسه لن يذهب إلى هذا الحد في المزايدة عليه، عبر اقتراح قانون ينص على انفاق الاحتياطات الإلزاميّة المتبقية من خلال آليات الدعم السابقة، لكون هذه المسألة تعني للمودعين تبديد آخر ما تبقى من أموالهم في النظام المالي.
وفي حشر القوى السياسيّة كرّر سلامة الحديث عن الـ828 مليون دولار التي جرى تبديدها في عمليات دعم استيراد المحروقات خلال شهر تموز وحده، من دون أن تتوفّر المواد في السوق، وهو رقم ضخم يتجاوز بأضعاف حاجة السوق الشهريّة للمحروقات. وإشارة الحاكم هنا إلى عمليّات التهريب والبيع في السوق السوداء، ليست سوى إشارة مبطّنة لمن يقف خلفها من شركات مستوردة تعمل ببركة وغطاء قوى سياسيّة معروفة، بما فيها جبران باسيل المعروف بقربه من أوسكار يمّين، صاحب شركة كورال التي تضاعفت حصّتها من سوق استيراد المحروقات منذ حصول الانهيار المالي، وما صاحب هذا الانهيار من فوضى في أسواق البنزين والمازوت.
كل ما أراد سلامة قوله كان التالي: الجميع كان يحرق الوقت بانتظار استنفاد الاحتياطي القابل للاستخدام والوصول إلى هذه المرحلة، وكانوا على علم أننا سنصل إلى لحظة رفع الدعم المفاجىء، بل وكانوا على علم بالقرار نفسه قبل اتخاذه. والبعض كان يستفيد من المرحلة السابقة وما أتاحته من أرباح وغنائم من عمليات التهريب والبيع في السوق السوداء، ولم يحاول حتّى المبادرة للخروج من آليات الدعم السابقة بشكل متدرّج. وطالما أن أحداً لا يملك الجرأة للمبادرة جديّاً من أجل الإنفاق من الاحتياطي الإلزامي اليوم، فالجميع متورّط في كل ما جرى، ولن يدفع سلامة ثمن المرحلة وحده أمام الرأي العام.
مع العلم أن سلامة حرص حتّى على الإشارة إلى دور الحكومة المستقيلة والمجلس النيابي، لكونه أبلغهما حقيقة عدم قدرته على المساس بالاحتياطات الإلزاميّة. وفي ذلك كان سلامة يلمّح إلى مرحلة تقاذف المسؤوليات بين الحكومة والمجلس، حين رفض كلّ منهما اتخاذ قرار صياغة خطّة لرفع الدعم بشكل متدرّج، لتفادي تداعيات القرار على المستوى الشعبي. كما رفض المجلس النيابي نفسه اتخاذ قرار يمكّن المصرف المركزي من الاستمرار بالانفاق من الاحتياطات الإلزاميّة، لعدم تحمّل مسؤوليّة تبديد ما تبقى من أموال المودعين.
ركاكة المطالعة الدفاعيّة
في مقابل قسوته وقوّة لكماته التي وجهها للأحزاب السياسيّة، وخصوصاً في رده على جبران باسيل، ظهر سلامة في قمّة الركاكة عند محاولة الدفاع عن دور المصرف المركزي منذ حصول الانهيار المالي، وفي طريقة تبريره لسياسته النقديّة قبيل حصول الانهيار. في الأساس، لم يشر سلامة إلى أنّه كان من بين الأطراف التي تعاملت بسلبيّة مع موضوع الوصول إلى خطة شاملة للمعالجة، يكون من بين أجزائها ملف توحيد أسعار الصرف بشكل مضبوط، هو ما مهّد للارتطام القاسي اليوم. ولعلّ سلبيّة سلامة مع فكرة الخطة الشاملة انطلقت منذ البداية من سعيه الدائم لتفادي التعامل مع خسائر النظام المالي بشكل جذري، ومحاولته التعامل مع تداعيات الأزمة بالمفرّق وعلى القطعة من خلال تعاميمه. ولهذا السبب، حَكم التشنّج الدائم علاقة سلامة بالحكومة المستقيلة وخطتها، وصندوق النقد، ثم جرى حرق الوقت بغياب أي رؤية لكيفيّة التعامل مع ملف الدعم وتعدد أسعار الصرف، ثم أتت لحظة رفع الدعم بهذا الشكل اليوم.
وفي دفاعه عن سياساته السابقة، يشير سلامة إلى أن هندساته حسّنت من تصنيف لبنان الائتماني بعد العام 2016، لكنّه يتغاضى عن أن هذا التحسّن الضئيل كان بفعل أرقام ميزان المدفوعات التي شهدت فائضاً لعام واحد فقط. أما الهندسات فكانت موضوع تحذير دائم من صندوق النقد والبنك الدولي ومعظم الدراسات الماليّة المعنيّة بمواكبة الملف اللبناني، خصوصاً أن هذه الهندسات كانت تستقطب سيولة المصارف اللبنانيّة من المصارف المراسلة وتبددها في عمليات تمويل التحويلات إلى الخارج وتثبيت سعر الصرف. علماً أن الأرقام التي ظهرت لاحقاً تثبت أن الأرباح التي جناها أصحاب المصارف وكبار المودعين بالليرة من الفوائد المرتفعة في ذلك الوقت، هي نفسها الأموال التي استخدمت لشراء الدولارات من الاحتياطي وتحويلها إلى الخارج.
وفي المقابلة، يبرر سلامة الإصرار على تثبيت سعر الصرف، وإجراء الهندسات في ذلك الوقت، برهانه على إصلاحات السلطة السياسيّة، التي كانت يفترض أن تعكس مسار الأزمة. لكن هذا التبرير يبدو غير منطقي وغير مفهوم، من شخص عمل في حاكميّة المصرف المركزي منذ العام 1993، وخبر جيّداً عبثيّة الكلام المتكرر عن الاصلاحات الماليّة قبيل المؤتمرات الدوليّة الشبيهة بمؤتمر سيدر. بمعنى آخر، كل ما كان يقوم به سلامة منذ ذلك الوقت لم يكن سوى شراء بعض الوقت للمنظومة السياسيّة قبل حصول الانهيار، على حساب ودائع اللبنانيّين وانتظام النظام المصرفي في البلاد.
كل ما أدلى به سلامة لم يؤكّد سوى نقطة واحدة: ثمّة منظومة سياسيّة قاومت طوال الحقبة الماضيّة جميع شروط الحل، وحرقت الوقت بانتظار حصول هذا الارتطام. وثمة منظومة ماليّة عمل سلامة على هندستها والحفاظ على مصالحها، بالتحالف مع المنظومة السياسيّة، وبتبادل وتقاطع المصالح معها. وما يجري اليوم من ارتطام عنيف وغير مسبوق، لم يكن سوى نتيجة رفض المنظومتين معاً جميع الاصلاحات التي كانت مطلوبة للخروج من الانهيار، لتضارب هذه الاصلاحات مع مصالح هذه الأطراف الراسخة. وما قاله سلامة، ليس سوى ضربة وجهها لمن حاول التملّص من مسؤوليته عن كل ما جرى، بالشراكة مع سلامة نفسه، وغيره من أقطاب الحكم، لكن سلامة لم يبرّئ ساحته أمام الرأي العام حتماً.