الصحّة العقليّة للحكم في لبنان
عماد الدين أديب -أساس ميديا
مشكلة الرئيس العابرة للخلاف السياسي أنّها أصبحت الآن مشكلة عقل أم لا عقل؟ قدرة صحّيّة على الاستيعاب أم خلل مرضيّ في الإدراك. كفاءة وظائف العقل في الحكم الرشيد أم حالة من الغيبوبة اللاإرادية تكاد تودي بالبلاد والعباد إلى الهلاك الشامل والسقوط المروّع؟
في دول العالم، وفي الحضارات القديمة الرومانية والفارسية والإسلامية، وفي عصر ما بعد الثورة الفرنسية حتّى الآن، هناك نصّ دستوري وعرف سياسيّ وإجراء قانوني يمنع الحاكم، سواء كان ملكاً أو سلطاناً أو رئيساً أو أميراً، من أن يدير شؤون البلاد والعباد إذا لم يكن مؤهّلاً صحّياً، أو إذا أصابه مرضٌ عقليّ يؤثّر على رشده في القرار، أو مرض عضوي يمنعه من أداء وظيفته على أكمل وجه.
من هنا يتمّ في الدول المتقدّمة إجراء فحص طبّيّ شامل قبل تولّي الحكّام الحكم، فيُجري طبيبٌ متخصّصٌ مستقلٌّ فحصاً طبّيّاً دوريّاً لهم، ويُلزَم الطبيب، بحكم القانون، بنشر النتائج الكاملة للفحص، والإفادة بالتحذير إذا كان الحاكم غير قادر على أداء مهمّته.
يقول نيكولا ميكيافيللي في نصح “الأمير”، ضمن كتابه التأسيسي عن أصول الحكم والسياسة: “إنّ الحاكم المتغلّب بالقوّة هو قويّ بالفعل، لكنّ الأقوى منه هو ذلك القوي الذي يمتلك حكومة طيّبة”.
“والحكومة الطيّبة”، هي تلك التي تراعي الاحتياجات الأساسية والإنسانية للمواطنين، وتتعامل معهم بأسلوب المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الطبقة أو الدين أو الجنس أو العرق أو المذهب أو المنطقة أو العائلة. هي الحكومة الرشيدة، وزعميها هو الزعيم الذي يحظى برضاء شعبه.
بالطبع لم يتحدّث ميكيافيللي عن الحكومة العاقلة لأنّ هذا أمر مفروغ منه.
المشكلة في الحالة اللبنانية أنّ الحاكم يرى أنّ الوطن أهمّ من الشعب، وأنّ الطائفة أهمّ من الوطن، وأنّ صهره أهمّ من الحكومة، وأنّ الأمن القومي الإيراني أهمّ من الأمن القومي اللبناني، وأنّ تثبيت الاقتصاد السوري بإمداده بالغاز والسولار والدواء والطحين أهمّ من إطعام شعبه.
الحالة اللبنانية هي جريمة موصوفة، بل هي انتحارٌ جماعي للنخبة الحاكمة مع سبق الإصرار والترصّد. وهي عناد أسطوري وتمسّك لانهائي بسلطة شاخت واهترأت وفقدت مصبّاتها لدى الجماهير من كلّ الطوائف وجميع المناطق، وكلّ الشرائح.
السؤال الذي يجب أن نطرحه بشكل إنساني بدائي على فخامة الرئيس ميشال عون: حينما تذهب آخر الليل إلى فراشك الوثير في قصر بعبدا، في غرفة فيها كهرباء، وتكييف هواء مركزي، وثلّاجة ضخمة فيها كلّ ما لذّ وطاب من أطعمة ومشروبات، وخزانة صغيرة فيها مبلغ محترم من العملات النقدية، وصندوق طبّي كبير فيه كلّ الأدوية المطلوبة، هل تنام بسهولة وضميرك مرتاح تماماً لكون كلّ ذلك متوافراً لديك، فيما لا يتوافر واحد على مليار ممّا لديك، لشعبك المسكين، الآيل إلى السقوط؟
حينما تناقش نفسك بصوت عالٍ: أما زلت ترى أنّ الحكومات تفشل بسبب عناد وغباء السُنّة، أم بسبب الحرب ضدّ محور الممانعة؟
هل تعتقد أنّ إيران وسوريا والصين وروسيا وفنزويللا هي الحلّ، وأنّ فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسعودية والإمارات هم العدو وأساس المشكلة؟
فخامة الرئيس: هل تعتقد أنّ الحكم في الجمهورية اللبنانية يمكن أن يُورَّث؟
فخامة الرئيس: هل تؤمن بأن لا رئيس من بعدك إلا جبران باسيل حتى لو ذهب كلّ لبناني ولبنانية إلى الجحيم؟
فخامة الرئيس: ألا ترى أنّ البنوك أفلست، وودائع الناس طارت، وأنّ الصيدليات خالية من الأدوية، وأنّ المخابز تُضرِب، ومحطات البنزين لا تُقدّم الخدمة، وأنّ المستشفيات بلا قطن ولا مضادّات حيويّة ولا أوكسيجين؟
فخامة الرئيس: ألا ترى أنّ منسوب الأمل ورصيد الرضا عند الناس وصل إلى الصفر، وأنّ البلاد والعباد يعيشون حالة إحباط وطني واكتئاب جماعي؟
فخامة الرئيس: ألم تسمع زعماء فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يصرخون جهاراً نهاراً أنّهم لا يثقون أبداً بأيّ جهة من جهات حكومتك وحكمك لكي يقدِّموا أيّ دعم مباشر لها؟
فخامة الرئيس: هل أنت مُدركٌ عقلياً ونفسياً وسياسياً وإنسانياً لِما وصلت إليه حالة البلاد والعباد في عهدك؟
فخامة الرئيس: ألا تُدرك أنّك الآن على رأس ما يُعرف في علم السياسة باسم “الدولة الفاشلة”، المنتهية الصلاحية، الذاهبة إلى الفوضى المؤدّية إلى الانهيار الكامل؟
سيادة الرئيس، أما زلت مؤمناً بمفردات قَسَم الحكم الذي أدّيته؟ وهل تؤمن بأنّك تقود لبنان نحو الإصلاح والنهضة والرفاهية؟
فخامة الرئيس: هناك احتمالان لا ثالث لهما:
– إما أنّك ترى أنّك لست مسؤولاً إطلاقاً عمّا حدث.
– أو أنّك تدفع ثمن مؤامرة محلية إقليمية كونية.
إذا كنتَ تُدرك الكارثة فعليك أن تستقيل فوراً. وإذا كنت تُدرك أنّها مؤامرة فعليك أن تُلحِق نفسك بمصحّة للكشف على رجاحة وسلامة عقلك الإنساني والسياسي.
أيّتها السيّدات، أيّها السادة: إنّ ما هو حادث الآن في لبنان قد نقول إنّه خلافٌ سنّي – شيعي، أو إسلامي – مسيحي، أو جنوبي – شمالي، أو بين شرق العاصمة وغربها، أو قوّاتي مع حزب الله، أو سعودي – إيراني، أو جبلي – ساحل، أو بين أغنياء وفقراء، أو بين فاسدين وشرفاء. لكنّه، باختصار وببساطة، صراعٌ بين قوى فقدت العقل والرشد والوعي والضمير، وبين قوى أخرى لا تزال محتفظةً بالحدّ الأدنى من هذه الصفات.
إنّه الجنون الكامل.