عندما قرر سجعان قزي ان يكحلها فأعماها متى يتخلى مأمور النفوس عن خاتم أوهانس باشا؟
ناصر قنديل-البناء
– في 21 نيسان الماضي وفي حديث متلفز قال البطريرك بشارة الراعي ان حزب الله هو قوة عسكرية إيرانية يناقش مستقبل سلاحه مع إيران لأنها النبع، وكرّر البطريرك بعدها مواقف تنزع عن حزب الله الذي نال مرشحوه قرابة نصف مليون صوت تفضيلي تعادل ثلث المصوّتين في انتخابات 2018 تقريباً، لبنايته، وأشعلت دعوته للجيش اللبناني لمنع حزب الله من إطلاق الصواريخ أزمة كبرى، بعدما طرح سؤال حاول الوزير السابق سجعان قزي تمويهه بطرح أسئلة بديلة في إطلالة تلفزيونية، من نوع هل كان المطلوب من البطريرك أن يؤيد إطلاق المزيد من الصواريخ حتى تشتعل الحرب، بينما هو يعلم انّ المطلوب كان مطالبة البطريرك للجيش بالردّ على الغارات “الإسرائيلية” بدلاً من تولي حزب الله الردّ، وبدلاً من مطالبته للجيش بالدخول في مواجهة دموية مع حزب الله يعرف الأستاذ قزي انها أقصر طرق خراب لبنان وأصعب وطاة من ايّ حرب أخرى، بما فيها الحرب مع “إسرائيل” التي بدت مردوعة أمام رد حزب الله مخيّبة مخاوف البطريرك والذين توقعوا معه ان ينجم عن ردّ حزب الله تعريض لبنان لخطر الحرب.
– في مقالة له أمس تابع قزي فكرته في تصعيد المواجهة مع حزب الله منطلقاً من طرح نظرية جديدة تريد ان تكحل الإتهام الموجه لمئات آلاف اللبنانيين بلبنانيتهم، مشيراً الى انّ حزب الله يتكوّن من مواطنين لبنانيين لكنه ينفذ سياسات إيرانية، وصولاً لنفي لبنانية الحزب وفقاً لمعادلة “منهم وفينا”، بدلاً من معادلة الإنتماء الواحد التي تلخصها عبارة “منا وفينا”، فهل نجح التكحيل أم أصاب الفكرة بالعمى، خصوصا أنّ القفز الى الطعن بلبنانية المختلف في النظرة للعلاقة مع الغرب هي قصة ممتدة زمنياً مع فريق لبناني يحاول الاستاذ قزي دفع البطريرك لوراثة النطق بلسانه، وخطاب هذا الفريق حاضر منذ التاريخ الذي اختاره قزي بداية للتقويم السياسي اللبناني الحديث، عام 1920، موعد الإعلان الفرنسي عن لبنان الكبير، ممنناً سائر المكوّنات اللبنانية بقبول انتسابهم الى الكيان اللبناني والنادي الذي تمّت إضافتهم اليه، مستدلاً على هذا الفضل الكبير بأنه كان ممكناً لهذا الفريق ان يرفضهم، وهذا كاف للاستدلال على التسامح والانفتاح برأيه، وتعبير عن مفهوم اللبنانية الرحب الذي يمثله، وللتذكير ففي ذلك التاريخ كان مسيحيون ومسلمون من لبنان يعلنون في مؤتمراتهم قرار الانضمام الى الحكومة العربية التي أعلنها الملك فيصل في دمشق ورفض دعوة الجنرال غورو، وكان الجواب بحقهم مشابهاً لكلام الأستاذ قزي بحق حزب الله، انهم أقلّ لبنانية، واللبنانية هنا لا تعترف بالمسيحي قبل المسلم إذا اختلف في السياسة، ولذلك ورد في مقال الأستاذ قزي توصيف تصغيري لموقف اكبر كتلة سياسية مسيحية يمثلها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر، باعتبارهم لا يمثلون اللبنانية التي يبشر بها الاستاذ قزي، وهي اللبنانية التي أبدع بوصفها الفيلسوف والأديب جبران خليل جبران في مقالته لكم لبنانكم ولي لبناني، وصولا لقوله، “لبنانكم ينفصل آناً عن سورية ويتصل بها آونة ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقود ومحلول، أما لبناني فلا يتصل ولا ينفصل ولا يتفوّق ولا يتصاغر”.
– في كلّ أزمة وطنية كبرى لم يستطع هذا الفريق وفقاً لمنطقه أن يتقبّل خلافاً في الرأي عندما يتصل الأمر بالنظرة لدور الغرب وقضية التحرر، إلا ويحوّله طعناً بهوية ولبنانية المختلف، فلم ينج زعيم بحجم صائب سلام من الطعن بلبناتيه ووجّهت له الدعوات ومعه من يؤيد أفكاره عام 1958 للرحيل الى سورية او الى مصر او الى الجزيرة العربية، والذين وقفوا مع المدّ الناصري قيل لهم انْ أعجبتكم مصر وجمال عبد الناصر فاذهبوا اليهم، والذين وقفوا مع سورية كعنوان لمشروع قومي قيل لهم ماذا تفعلون في لبنان، وامتلأت التعليقات الإذاعية في فترة الحرب لأصحاب هذا المنطق بدعوة المسلمين المختلفين بالرحيل الى السعودية، وما يصيب حزب الله اليوم ليس جديداً، ولا يختصّ به وحده، انه منطق شمولي شامل، شمولي لأنه يعجز عن التعامل مع حق الإختلاف، وشامل لأنه يطال كلّ مختلف، فلا ضير ان يصيب حزب الله اليوم بمثل ما أصاب كمال جنبلاط وصائب سلام وأنطون سعاده من قبل.
– المشكلة هي في هذا التفكير المصاب بالنرجسية والغرور، ومزاعم الوصاية والاستعلاء، المفعم بادّعاء مأمور النفوس الذي لا يزال يحمل خاتم المتصرفية، كأنه أوهانس باشا يقرّر من هو اللبناني ومن هو غير اللبناني، ويعجز عن التسليم بأنّ مئة عام جعلت من كلّ الذين يحملون الهوية اللبنانية مواطنين متساوين بحق النطق بإسم وطنهم، لا فضل لأحدهم على الآخر، يختلفون ويتفقون ولا يمسّ أحد منهم بإنتساب الآخر الى الوطن، فليس هناك مواطن درجة أولى معه خاتم مأمور النفوس، ومواطن درجة ثانية قيد الإختبار، وكل حديث عن الحوار وعن الخلاف مصاب بالعمى ما بقيت هذه معاييره، وكل دعوة لمواجهة او أحلاف تنطلق من هذه العنصرية لن تبصر النور، لأنها ستعامل الحليف غداً عند أول خلاف كما تطلب منه ان يعامل الشريك في الوطن، والمشكلة انّ الأستاذ قزي الذي يستغرب ما يصفه بتلكؤ الآخرين عن مشاركته في مواجهة حزب الله، لا ينتبه انّ ما يعتبره تلكؤاً هو ذكاء استباقي كنتيجة طبيعية للقلق الدائم من تمكين هذه العنصرية من الإمساك مجدّداً بمصير البلد، كي لا يقول غداً الذين يسلّمونها رقابهم اليوم «أكلنا جميعا يوم أكل الثور الأبيض».