ارشيف الموقع

تسوية “العهد” مع سلامة: جداول أسعار جديدة لاستيراد المحروقات

حدثت مسرحيات رفع الدعم لترتيب توافق جديد (علي علّوش)

علي نور الدين|المدن

من حيث المبدأ، يمكن لحاكم مصرف لبنان أن يصر على قراره بوقف فتح الاعتمادات، وفق سياسة دعم استيراد المحروقات السابقة. لكنّ ذلك لن يعني الدخول في مرحلة الاستيراد غير المدعوم، طالما أن وزارة الطاقة لم تحدد جدول أسعار جديد، يمكن على أساسه استيراد المحروقات وبيعها. كما يمكن للحكومة ووزارة الطاقة أن يصرّا على الاستمرار بجداول الأسعار القديمة نفسه. لكنّ المستوردين لن يزوّدوا الأسواق بهذه المواد، إذا لم يوافق مصرف لبنان على فتح الاعتمادات وفقاً لسياسة الدعم السابقة. وسيكون بإمكان رئاسة الجمهوريّة حتماً أن تطلب من الحاكم التنسيق مع السلطة الإجرائيّة أو التنفيذيّة. لكنّ هذا التمنّي سيظل مادّة للاستعراض الإعلامي، طالما أن رئيس الجمهوريّة لم يلعب دوره على رأس السلطة التنفيذيّة لوضع مخارج لهذه الأزمة.

كل هذه الحلقة المفرغة من القرارات والقرارات المضادة جرت بالأمس، كجزء من مسرحيّة، يدرك جميع أطرافها أن أيّ منهم غير قادر على وضع ما يقوله حيّز التنفيذ، بانتظار بلورة سياسة بديلة لاستيراد المحروقات، يمكن أن يتم تأمين التوافق عليها من قبل جميع الأطراف. سلامة يريد تفجير قنبلة وقف الاعتمادات لوضع الجميع أمام الأمر الواقع، وفرض التباحث معه في الآليات البديلة. العهد يريد الخروج بأقل أضرار شعبيّة، من خلال استعراض عمليّة استدعاء سلامة والاحتجاجات أمام منزله. فيما تصر حكومة تصريف الأعمال على رفض اتخاذ أي قرار واضح، لتجنّب التعامل مع الكرة الملتهبة.

أما ثمن هذه المناورات، فليس سوى حال الشلل التي ضربت سوق المحروقات طوال يوم أمس، نتيجة عدم وجود سياسة استيراد متفق عليها بين جميع الأطراف. ومن المفترض أن تستمر حالة الشلل اليوم بانتظار البت بسياسة الاستيراد البديلة، أو على الأقل الخروج بحلول مؤقتة، ريثما يتم البت بهذه السياسة. أمّا كميات المازوت المتوفّرة في السوق، فشحّت حتى فُقدت من السوق السوداء نفسها، وهو ما بات يهدد جميع مفاصل الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في البلاد، بما فيها قدرة الأفران ومولدات الكهرباء على العمل.

اجتماع حكومة دياب: في كوكب آخر
لم يكن أحد بحاجة لمراجعة قرارات حكومة دياب يوم أمس، حتّى يدرك أن السادة وزراء تصريف الأعمال يعيشون على كوكب آخر. أساساً، علم غالبيّة الوزراء بالقرار من وسائل الإعلام، بعد أن أرسل أحدهم رابط الخبر على مجموعة الواتساب الخاصّة بالحكومة، فتفاجأوا واستهجنوا على المجموعة نفسها. وبعد أن تقاعس دياب وحكومته منذ أشهر عن العمل على خطة متدرّجة للخروج من حقبة دعم الاستيراد، مفضلاً ترك اللغم لخلفه الذي طال انتظاره ولم يأتِ بعد، بات عليه أن يتعامل اليوم مع هذه القنبلة التي رماها نحوه حاكم المصرف المركزي. مع العلم أن مجرّد امتناع مصرف لبنان عن الاستمرار ببيع الدولار للمستوردين وفقاً لسعر الصرف المدعوم، يفرض على وزارة الطاقة والمياه ومن خلفها الحكومة التعامل مع الملف، من خلال العمل على جداول أسعار جديدة، يمكن على أساسها أن يتم الاستيراد، وفقاً لسعر الدولار الفعلي في السوق. أما الخيار الآخر، فليس سوى التفاوض مع الحاكم على آليات بديلة تتدرّج في الخروج من مرحلة الدعم. وهو ما كان يفترض أن يتم منذ فترة طويلة.

على أي حال، لم تكن الحكومة تجتمع دوريّاً قبل اتخاذ مصرف لبنان لهذا القرار، كي تحضّر لهذه المرحلة أو تفاوض سلامة. وهو ما مثّل جزءاً من سياسة تفادي التعامل مع الأزمات ولو ضمن هامش تصريف الأعمال. وبعد أن أصبحت الحكومة المستقيلة أمام الأمر الواقع، عقدت اجتماعها بالأمس الذي لم يعكس سوى سياسة الهروب من التعامل مع الموضوع مجدداً، وإبعاد الملف الشائك عنها، أو على الأقل تفادي ربطها بالقرار، والظهور بموقف الرافض له، بمعزل عن مسؤوليّاتها أو دورها في المرحلة الراهنة. علماً أن القرارات التي نتجت عن الجلسة كانت من النوع غير القابل للتطبيق، ما يدل أن ما جرى لم يكن سوى مسرحيّة تم عرضها أمام الرأي العام، بانتظار بلورة تسوية ما مع حاكم المصرف المركزي خلال الأيام المقبلة خارج مجلس الوزراء.

وهكذا اكتفى الاجتماع مثلاً بالطلب من الشركات العاملة في قطاع النفط الالتزام بجدول الأسعار الرسمي القديم كما هو، وعدم تعديل المشتقات النفطيّة، رغم أن هذا الجدول غير قابل للتطبيق فعلياً إذا لم يوافق مصرف لبنان على فتح الاعتمادات اللازمة لذلك من احتياطاته. كما طلب المجلس من الوزارات المختصّة إعداد تصوّر يمكن أن يميّز بين الدعم لأنواع المحروقات المختلفة، كأن يكون هناك سعر للبنزين 98 أوكتان غير مدعوم وآخر للبنزين 95 أوكتان مدعوم، رغم علم جميع الوزراء أن هذا النوع من التصوّرات تمّت مناقشتها سابقاً وجرى استبعادها لعدم واقعيّتها، وصعوبة ضبط كميات المحروقات المدعومة لمنع بيعها كمحروقات غير مدعومة.

ولهذا السبب، انتج مجلس الوزراء المزيد من التعقيد في المشهد، عبر حصر مقرراته برفض خطوة سلامة ورمي الكرة بعيداً عن ملعب الحكومة، من دون البحث بأي مخرج تقني أو مالي ممكن للأزمة، أو العمل على مداولات يمكن أن تنتج مخارج كهذه، وهو ما سيؤدّي إلى فرملة الاستيراد كلياً بفعل اختلاف المصرف المركزي مع وزارة الطاقة على التسعيرة.

مسرحيّة رئاسة الجهوريّة: إدّعاء الصدمة
لم يكن هناك أي معنى من الناحية العمليّة لاستدعاء رياض سلامة إلى القصر الجمهوري صباح أمس، خصوصاً أن الرئيس علم بالقرار قبل يوم واحد من حاكم مصرف لبنان شخصياً، خلال اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، ما يعني أن الرئيس لم يتفاجأ بقرار مصرف لبنان بعد اجتماع المجلس الأعلى للدفاع. لا بل كان من الواضح أيضاً أن الرئاسة لم تقدّم لسلامة خلال الاجتماع أو لحكومة تصريف الأعمال لاحقاً أي مخرج أو حل بديل، باستثناء الطلب من الحاكم التنسيق مع السلطات الإجرائيّة قبل تطبيق قراره.

في المقابل، جاء احتجاج التيار الوطني الحر أمام منزل سلامة مساء أمس ليكمّل مشهد العراضة هذه، التي حاولت تسويق العهد بصورة الرافض لخطوة سلامة. مع الإشارة إلى أن العهد يدرك أن تسوية ما يُفترض أن تتم مع حاكم مصرف لبنان لاحقاً، للتفاهم على صيغة جديدة لاستيراد المحروقات، خصوصاً أن السوق لا تحتمل فرملة الاستيراد الكاملة الناتجة عن الخلاف القائم ما بين الحكومة ومصرف لبنان. وفي حال تم التفاهم على سعر صرف معيّن لاستيراد المحروقات، يقل عن سعر صرف السوق السوداء، كسعر المنصّة الجديدة مثلاً، فسيكون العهد قد سوّق هذا التنازل من قبل سلامة كإنتصار في معركة الدعم أمام الرأي العام.

سلامة رمى القنبلة
تكثر التحليلات التي تربط قرار سلامة بقرب تشكيل الحكومة، بمعنى أن الحاكم أراد إراحة ميقاتي من جميع القرارات غير الشعبيّة عبر تمريرها قبل دخول ميقاتي السراي الحكومي. لكن في الوقت نفسه، كان من الواضح أن الحاكم اتخذ قراره بأعلى مستوى ممكن من الغموض، فلم يحدد مثلاً مصدر الدولارات التي سيتم بيعها للمستوردين بعد اعتماد سعر الصرف في السوق، كما لم يشر إلى كيفيّة احتساب سعر صرف السوق أو تحديده، خصوصاً أن الركون إلى السوق السوداء مسألة غير واقعيّة بالنظر إلى عدم وجود مصدر تسعير موحّد ورسمي للدولار في هذه السوق.

ولذلك، ثمة من يرى في هذا الغموض إشارة إلى أن الحاكم أراد أن يترك هامشاً واسعاً للمناورة لاحقاً، للتوصّل إلى مخارج أو تسويات بالتفاهم مع الرئاسة ومجلس الوزراء، خصوصاً أنّه يعلم أن فرض هذا النوع من القرارات بشكل أحادي غير ممكن من دون التفاهم مع وزارة الطاقة والحكومة على جداول أسعار جديدة. وبمعنى آخر، فما قام به سلامة لم يكن سوى قنبلة أراد من خلالها فرض أمر واقع على الجميع، للتوصّل إلى حلول عمليّة لاحقاً، يمكن أن تكون مثلاً الاستيراد على أساس سعر المنصّة الجديدة التي تم استحداثها منذ أشهر. وفي حال اعتماد تسعيرة المنصّة، فسيراهن سلامة حتماً على تعديل هذه التسعيرة تدريجياً مع الوقت، لتتماشى مع سعر صرف السوق السوداء، وليتمكّن من تحويلها إلى أداة قادرة على تداول الدولار بيعاً وشراءً في السوق، بدل استنزاف الاحتياطات في عمليّة استيراد المحروقات.

وهكذا، بين سلامة والعهد وحكومة تصريف الأعمال، يصبح أمامنا مشهد متكامل من ثلاث مسرحيات سارت بالتوازي يوم أمس. وخلال الساعات المقبلة، سيكون الجميع أمام استحقاق تداول الحلول المحتملة للخروج من عنق الزجاجة، وتمكين الشركات المستوردة من تسليم المحروقات إلى الموزّعين والمحطات. أمّا إذا طالت مرحلة المناورات والتجاذبات، أو إذا أصرّ العهد على المضي أكثر في العراضات الشعبويّة قبل الوصول إلى تسوية، فستكون النتيجة أزمة انقطاع كامل للمحروقات عن السوق، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من تداعيات اجتماعيّة واقتصاديّة مرعبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى