ٍَالرئيسيةتحقيقات - ملفات

لماذا تكسر يدنا الممدودة يا سمير؟

قاسم يوسف –

ماذا يبقى من جذريّة الارتباط العميق الذي يجمعنا بسمير جعجع وبالقوات اللبنانية إن هي هاجمت رضوان السيد على هذا النحو المتوتّر والمبالغ فيه؟ وإن كنت أرى أنّ بعضاً ممّا ورد في مقالة الرجل لا يستوي مع روحيّة الزواج الماروني الذي يجمعنا بالقوات، فإنّني أجد أنّ الردّ عليه بهذه الطريقة يُعطي انطباعاً مرعباً حول حتميّة الهجر، وصولاً إلى استحالة التعايش.

وهنا أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أنّه حين استعصى التوافق والاتفاق والانسجام بين الصديقين المعتدلين المنفتحين الياس سركيس وسليم الحص، خرج مَن يقول يومذاك: إذا لم يتّفق هذان الرجلان، فهذا يعني أنّ كل الفكرة التي قام على أساسها لبنان آيلة للسقوط.

لماذا نقول هذا الكلام؟

الحقيقة أنّ القوات باتت وحدها. بلا حلفاء. هي اختارت أن تكون في مكانها هذا لاعتبارات غير مفهومة. وإذا كان الاشتباك مع حزب الله طبيعياً وضرورياً ومستنداً إلى ثوابت سياسية ووطنية وأخلاقية، فماذا عن الآخرين؟

ببساطة لأنّ رضوان السيد هو علاّمة فكرية ونهضوية واجتهادية وفقهية وشرعية، وهو في ذلك الأوّل بين الأوائل، بل ولا يرتقي إلى علمه ومكانته إلا قلّة قليلة جداً على مستوى المنطقة برمّتها. وليس عابراً على الإطلاق أن يحظى رجلٌ مثله بأرفع جائزتين فكريتان دولتين عربيّتين، السعودية ومصر، مقابل إضافاته الهائلة والمميّزة، ناهيك طبعاً عن حضوره المهول في شتّى ميادين الفكر الإسلامي، ليس على مستوى لبنان والمنطقة وحسب، بل على مستوى العالم كلّه.

أمّا أهمّية رضوان السيد في جانبه اللبناني فهي تتخطّى قيمته الشرعية والعلمية، وتلامس وطنيّته الخالصة التي ما برحت مثالاً يُحتذى في شجاعته وصلابته، خصوصاً في مواجهته المفتوحة مع حزب الله، وفي إصراره الدائم والدؤوب على شراكة وطنية تتخطّى التطييف والمذهبة إلى رحاب الفكرة اللبنانوية التي تُجسّد العمود الفقري لرسالة لبنان ودوره ووظيفته. وهو في ذلك أقرب ما يكون إلى الفريق السيادي، وإلى “المارونية” العميقة المجرّدة من المصالح الضيّقة والشعوبيّات الآنية.

مثل هذا الرجل. هذه القيمة. هذا العقل. مثل هذا لا يُقابَل بالتوتّر والانفعال، بل بالهدوء والحوار والتفهّم، وهو إذ يستند إلى قواعد صلبة تتيح له العتب، وربّما أكثر، فالمطلوب من الطرف الآخر أن يبادل هذا العتب بالحرص والمراجعة وإعادة التفكير بعقل هادئ وبارد.

لكن، وقبل الدخول إلى أصل التباين الحقيقي مع القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، يحضرني سؤال لا بدّ منه: من هم حلفاء القوات؟

الحقيقة أنّ القوات باتت وحدها. بلا حلفاء. هي اختارت أن تكون في مكانها هذا لاعتبارات غير مفهومة. وإذا كان الاشتباك مع حزب الله طبيعياً وضرورياً ومستنداً إلى ثوابت سياسية ووطنية وأخلاقية، فماذا عن الآخرين؟

ثمّة ضغينة مع الكتائب لامست حدود الاشتباك والقطيعة على الرغم من خروجهما من رحم واحد. ارتطام مع تيار المستقبل تجاوز التراشق السياسي والإعلامي إلى ما يشبه العداوة الشخصية. علاقة غير سويّة مع وليد جنبلاط. علاقة مزاجيّة مع نبيه بري. معارك وجوديّة مع التيار الوطني الحر. فتور مع سليمان فرنجية. مذابح مع القوميين والشيوعيين. قطيعة مع فارس سعيد. ومع بطرس حرب. ومع ميشال معوّض. والآن معركة حامية الوطيس بوجه رضوان السيد. تمهّل في التعاون مع حزب الله.

كلّ هذا لأجل ماذا؟ الانسحاب من الطبقة السياسية ونفض اليد من قذاراتها وموبقاتها وممارساتها؟ ثمّ ماذا؟ الارتصاف في صفوف المجتمع المدني؟

هل تتابعون رأي الناس؟ هل تتابعون تصاريحهم العفوية عبر وسائل الإعلام وعبر منصّات التواصل الاجتماعي؟ ألا تعني لكم شيئاً نتائج الانتخابات في الجامعة اليسوعية، جامعة بشير وحصنه الحصين؟ ألا تعني لكم شيئاً نتائج الانتخابات في نقابة المهندسين؟ ألا تعني لكم شيئاً المشهدية النافرة في الرابع من آب؟ لقد ظهرتم بصورة الدخيل على حالة لا تجد طريقها إلى الانسجام معكم، بل وتعتبر في عميق عميقها أنّكم جزء لا يتجزّأ من منظومة سياسية شاركت في حكم البلاد على مدى سنوات، ولو أنّها تعترف لكم ببعض المواقف الشجاعة، لكنّها لا تؤهّلكم لنيل ثقتهم أو موافقتهم على تزعّم الحركة الاعتراضية أو حتى على الانضواء تحت خيمتها.

ألا يستحقّ كلّ هذا مراجعة نقدية عاقلة وجديّة وهادئة؟ هل من مشروع سياسي ووطني خارج منطق الانتخابات النيابية الفورية، التي لن تُقدّم قيد أُنملة أو تؤخّر؟ ماذا سيتغيّر في الجنوب، كلّ الجنوب؟ لا شيء. ماذا سيتغيّر في الشمال؟ بعض المقاعد التي ستنتقل من هذا إلى ذاك؟ ماذا سيتغيّر في البقاع؟ ثلاثة مقاعد للقوات بدل مقعدين؟ عدا ذلك سيبقى كلّ شيء على حاله. الانتخابات فقط في بعض مناطق بيروت وجبل لبنان وصولاً إلى كسروان وجبيل. ما الفائدة المرتجاة؟ وراثة ميشال عون وصهره بعدما ترهّلت حالتهم الشعبية وصاروا أثراً بعد عين؟ هل هذا هو المشروع الوطني لتغيير البلد؟ أم محاولة لحصد أكبر كتلة مسيحية تُتيح ممارسة مستعادة ومرفوضة ومشوهة للعبة الأقوياء في طوائفهم؟

الحقيقة أنّكم تخسرون هنا ولا تربحون هناك. أمثال رضوان السيد، ومهما كان ناقداً وقاسياً وجارحاً، لا يُقابَل بهذا النوع من التنكّر. هو شريككم الذي طالما وقف إلى جانبكم، ودافع عنكم، وأشاد بمواقفكم، ووقف كالصخرة دفاعاً عن خياراته وخياراتكم الوطنية

هذا غيض من فيض الأسئلة التي تتزاحم يوميّاً إلى رؤوسنا. ماذا يريد سمير جعجع؟ ماذا تريد القوات؟ هل ثمّة أشياء لا ندركها ولا نفهمها ولا نعرفها؟ أين المصلحة الوطنية في ممارسة هذا النوع من السياسات المتوتّرة؟ وأين الأحلام الكبيرة التي جمعتنا معاً في جلجلة النضالات التي عبّدناها بجبل من الجثث وبحر من الدم؟ أين الشعارات الكبرى التي ساوت الأرض منذ اتفاق معراب الشهير؟ أين سمير جعجع رأس حربة مشروعنا السيادي، وصوته الصارخ، ووجهه الأقوى والأصلب والأكثر تجذّراً وإيماناً وعقلانية؟ هل المطلوب منّا فعلاً أن نقلب هذه الصفحة؟ كم يعزّ علينا. كم يعزّ علينا أيّها الرفاق.

الحقيقة أنّكم تخسرون هنا ولا تربحون هناك. أمثال رضوان السيد، ومهما كان ناقداً وقاسياً وجارحاً، لا يُقابَل بهذا النوع من التنكّر. هو شريككم الذي طالما وقف إلى جانبكم، ودافع عنكم، وأشاد بمواقفكم، ووقف كالصخرة دفاعاً عن خياراته وخياراتكم الوطنية، ووقف أيضاً كنصل السيف في مواجهة التطرّف والعصبيّات وأدبيّات التكفير، لمصلحة فكرة التكامل والانصهار ضمن بوتقة واحدة تعيد لبنان إلى حقيقة دوره ووظيفته ورسالته كواحة استثنائية للسلام والتعدّد والانفتاح والحوار ولقاء الحضارات.

كان السفير السعودي الأسبق عبد العزيز الخوجة يردّد على مسامع ضيوفه باستمرار، أنّ سمير جعجع يبدع في اليوميّات السياسية، ويخطئ في رؤيته الاستراتيجية. وهذا واحد من أخطائه وخطاياه الاستراتيجية التي راكمها ولا يزال، بغية تسجيل بعض النقاط الوهمية في اللعبة اليومية القاتلة والمستنزِفة والمدمِّرة.

بعد اتفاق الطائف وتوزير سمير جعجع، ثمّة مقولة راحت تنتشر كالنار في الهشيم في الشارع المسيحي آنذاك، مفادها أنّ سمير جعجع حارب ميشال عون وقاتله، ثمّ وقّع لاحقاً على اتفاق الطائف، كي يصبح وزيراً. هذا الأمر ساهم على نحو عميق ومؤكّد في استقالته من الحكومة. فكان أن أهمل الأهميّة الاستثنائية والاستراتيجية لاتفاق يحظى بهذا الحجم الهائل من التغطية الدولية والإقليمية والمحلّية، لمصلحة حساسيّته المفرطة تجاه اليوميّات السياسية والشعبوية التي تمتدّ حصراً من المدفون إلى كفرشيما. وحدث يومذاك أن دفع ثمناً شخصياً باهظاً، تمثّل بخروجه من التسوية إلى السجن، ودفع المسيحيون معه تكلفة تاريخية، تجسّدت في خروجهم الكامل من المعادلة السياسية والوطنية. ويومها لم يرتجف جفن العالم لمصابه ومصابهم، ولم يهتزّ التأييد المطلق لاتفاق الضرورة الذي يتجاوز سفاسف الأمور وصغائرها.

يبقى أن نوجّه كلمة من القلب. بكلّ محبّة وبكلّ حرص. لا تدفن كلّ شيء يا سمير كرمى لهدف لن تصل إليه. السنّة أحبّوك وأنصفوك. لا تترك ولا تكسر يدهم الممدودة إليك. لا تنصرف إلى يوميّات وشعبويّات لا تُسمن ولا تغني من جوع. كنْ دائماً حيث ناصروك ووثقوا بك ورفعوك. فكِّر برويّة وهدوء. ثمّ أعد التفكير مرّة ومرّتين ومرّات. لكن لا تتأخّر في تصويب البوصلة.

      النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى