لبنان الجديد: الشعبوية تنتصر على العدل
خالد البوّاب
يغرق لبنان في “الشعبوية”. الشعبوية بما هي لعب على حافة الهاوية. يستخدمها الحاكم في سياق تتفيه معارضيه. ويستخدمها “الثوري” في سياق بروباغندا تهتك أعراض الحاكمين، وتشوّه سمعتهم، كلن يعني كلن”.
يقف لبنان على حدّ السيف. تحيط به الحرائق. تتحكّم به العبثيّة. يراقب اللبنانيون أفق التصعيد في المنطقة، على وقع تعثّر مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وفي ظلّ التوتّر الكبير الإسرائيلي الإيراني، الذي بدأ يأخذ بعداً دولياً جماعياً ضد إيران التي تخرق القانون الدولي وقواعد سلامة الملاحة البحرية.
آخر الواصلين إلى نادي “الشعبوية” هي الجماعات التغييرية أو “الثورية”، أو ما يعرف بـ”المجتمع المدني”، من خلال اعتماد نهج التعميم والتعمية، كما هو الحال بالنسبة إلى التعاطي مع تحقيقات تفجير المرفأ
كتب الأستاذ عماد الدين أديب، قبل أيام، هنا في “أساس”، عن مقوّمات الدول التي التحقت بالركب الإيراني، وعن الميزات التي تتمتّع بها شعوب هذه الدول. وما كتبه الأستاذ أديب دقيق، لا شكّ أنّ اللبنانيين يلتمسونه بأيديهم ويعايشونه يومياً. لكنّ الأخطر من انعدام الماء والكهرباء والخدمات الأساسية بحدودها الدنيا، هو سحق كلّ ما له علاقة بالتحفيز على التفكير، أو السماح بمناقشة الأفكار، أو رفع النقاش إلى مستوى “العقل”، بدلاً من “الغريزة”، سياسية كانت أو قبلية أو عائلية أو مذهبية أو حتّى “أن جي أوزية”.
يعيش لبنان لحظات احتضاره فكرةً ودوراً.
قيل الكثير سابقاً عن أنّ المدخل للسيطرة على شعب معيّن هو ضرب ثقافته، وتعطيل مقوّمات تفكيره.
هذا يتجلّى بوضوح في لبنان منذ سنوات أوصلت النقاشات السياسية فيه إلى حدّ التفاهة السياسية التي تقوم على منطق الشعبوية.
منذ ادّعاء القوى المختلفة الدفاع عن حقوق الجماعات والطوائف بنبرة مذهبية وطائفية تقوم على التعصّب، مع ما يكرّسه ذلك من غياب أساسي للصراع الثقافي والفكري، ومنذ أخذ كثيرون البلاد إلى أبعاد تُنحّي أيّ نقاش عاقل جانباً، وهذه المنظومة تعمل على إنتاجها جملة عوامل متداخلة، تكرّسها التبعية العمياء للمنطق السائد، والاستسلام لـ”الترند”. بتنا محكومين بسيادة منطق القوّة التي تنطلق من التركيز الدعائي على ترسيخ فكرة أو مفهوم في عقول الناس بهدف أسرها بدلاً من مناقشتها ونقدها.
كان حزب الله، السياق المتقدّم للمشروع الإيراني، أوّلَ من عمل ونجح في تكريس هذا الهبوط الحادّ في دور لبنان. تلاه التيار الوطني الحرّ، على قاعدة تخوين الخصم أو كل شخص يعترض على فكرة يُراد لها أن تُسوَّق أو تسود.
يقف لبنان على حدّ السيف. تحيط به الحرائق. تتحكّم به العبثيّة. يراقب اللبنانيون أفق التصعيد في المنطقة، على وقع تعثّر مفاوضات الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأميركية
والحزب تمكّن من الذين يدّعون خصومته، فأوقعهم في شركه، ليحصر المعركة بينه وبينهم بناء على قواعد محدّدة داخل قالب واحد، وبأسلحة متشابهة، وهي التعمية على الحقيقة والتركيز على المواجهة من داخل العلبة لا من خارجها.
آخر الواصلين إلى نادي “الشعبوية” هي الجماعات التغييرية أو “الثورية”، أو ما يعرف بـ”المجتمع المدني”، من خلال اعتماد نهج التعميم والتعمية، كما هو الحال بالنسبة إلى التعاطي مع تحقيقات تفجير المرفأ، أو مع الأزمة المالية والاقتصادية، واعتماد منطق دعائي ينطلق من عبارة “كلن يعني كلن”.
التعميم هنا يهدف إلى التخريب وتضييع جوهر القضية بدلاً من وضعها في سياقها الطبيعي لتحميل المسؤولية للمسؤول مباشرة بدلاً من إغراقها في حسابات الشعبوية التي تتّهم الجميع. فأخذ بعض السياسيين يتجنّبون أيّ انتقاد أو مساءلة أو اعتراض على ما تفرضه “ديكتاتورية” البروباغندا الـ”مجتمع مدنية”.
الطريق الأسهل هو الانصياع للسائد، ولرفض وضع الأمور في نصابها أو في ميزان المنطق العقلي، لتسهيل الطريق، والركون إلى إطلاق النار والاتّهامات على الجميع.
الحزب تمكّن من الذين يدّعون خصومته، فأوقعهم في شركه، ليحصر المعركة بينه وبينهم بناء على قواعد محدّدة داخل قالب واحد، وبأسلحة متشابهة، وهي التعمية على الحقيقة والتركيز على المواجهة من داخل العلبة لا من خارجها
كلّ ذلك يسهم في القضاء على الفكرة اللبنانية التي قامت على مبدأ التنوّع والرأي والرأي الآخر. وهي مرفوضة وممنوعة في هذه الظروف وفي حواضن المحور الإيراني. وكما يُعدّ التنوّع السياسي في عداد المحرّمات، فإنّ التنوّع الثقافي أو الفكري هو من المحرّمات أيضاً.
الترجمة السياسية لهذا المسار تسلكه مفاوضات تشكيل الحكومة، وما يقوله رئيس الجمهورية في أوساطه من أنّ الحكومة إمّا أن تتشكّل وفق القواعد التي يضعها والشروط التي يحدّدها، أو لن تجد طريقها إلى التشكيل.
وهذا يقود إلى فكرة واضحة، وهي تكريس الفراغ واعتبار رئيس الجمهورية نفسَه الحاكمَ المطلق، المستحكم بكلّ تلابيب الوضع العام والمتدخّل في شؤون كل الوزارات أو الإدارات، فلا يرى ولا يعترف بوجود حالة شاذّة اسمها الفراغ، بل ينظر إلى نفسه بأنّه الوحيد القادر على سداده والتعويض عن غياب الآخرين. تماماً كما تظنّ مجموعات المجتمع المدني نفسَها، منطلقةً من عقلية إلغائية، تلتقي مع عقلية إلغائية أخرى في كل الطوائف والمذاهب، فلا يقود الصراع بين هاتين الإلغائيّتين إلّا إلى التخريب والدمار.
لم يعد لبنان يعيش معركة سياسية، ولا معركة بين سلطة وشعب، ولا بين مشاريع تغييرية متعدّدة. يتوهّم مَن ينظر إليه كذلك. يعيش البلد على طريق جحيم محتّم، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يتحوّل ساحةً لتصفية الحسابات، مع تشديد على فكرة تصغير الدور، فبعدما كان ساحة لحرب الآخرين على أرضه وفق نظرية غسان تويني، أصبح اليوم ساحة لتصفية الحسابات بين المجموعات المتقاتلة فيه. حتى في أيام استخدامه ساحةً لتصفية الصراعات الخارجية، كان فريداً من نوعه. أمّا اليوم فهو مستلحَق من قبل محافظات مجاورة، ويحاول مَن فيه استنساخ نفس التجربة استجابة لذوبان الدور والفكرة. المعركة أبعد من تشكيل حكومة لن تتشكّل، وأعمق بكثير من صراع سياسي. إنّها معركة الوجود، والأفظع أنّ من يعتبر نفسه يخوضها، ليس على قدرها ولا على قدر تطلّعاتها.
لبنان يغرق في الشعبوية. ويغرق في غياب العدل العقل، خصوصاً في الدعوة الساذجة إلى “تشريع قتل السياسيين”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع