نشوة التكليف كالفرحة بصفيحة بنزين.. في محرقة الانهيار الكبير
منير الربيع-المدن
حال الإحباط التي يعيشها اللبنانيون تدفعهم إلى التعلّق بالأوهام والرهان على السراب. فالمصائب والأهوال اللبنانية تدفع إلى هذيان وهستريا جماعيين، يبعثان السراب والأوهام على الغارب. وأسوأ ما يمكن أن يصل إليه مجتمع هو الرضى بمكسب صغير في بحر الهموم والمصائب.
نشوة البنزين والتكليف
فعلى مسافة أيام من موعد الاستشارات النيابية لتكليف شخصية بتشكيل حكومة، هرع لبنانيون كثرٌ إلى الصرافين بحثاً عن بيع دولاراتهم، قبل انخفاض سعرها. وهذه ترجمة مثلى لمن يرجم نفسه أو يحزّ وريده، ليشعر بلحظة نشوة أليمة. والترجمة هذه حال تعمّم معظم المعضلات ويوميات البؤس اللبنانية.
وهناك من ينتشي بحصوله على بضعة ليترات من البنزين. وهي نشوة نصر عمياء خاوية. وآخرون تعميهم ليالي الظلام فينتشوا بلحظات من أنوار مولدات المازوت، أو شركة كهرباء لبنان.
وما ينطبق على المواطن العادي، يشمل كثرة من السياسيين، أولئك الذين ينتشي واحدهم كلما استشعر احتمال وصوله إلى موقع أو منصب جديد، أو فوزه بتكليف ما. وماذا يمكن أن يكون المنصب والتكليف اليوم سوى أن يكلف أحدهم بتشكيل حكومة، وليصير رئيس حكومة. فينتشي للحظات أو ساعات أو أيام، كمن حصل على تنكة بنزين، ليعود بعدها إلى دوامة الأزمات والخراب.
واستشعر تلك النشوة جميع من سمعوا أسماءهم مطروحة في بازار التكليف، كأنما للمرة الأولى يسمعون أسماءهم ويوقنون أن لهم أسماء. وتذهلم النشوة عن المهاوي التي تنتظرهم في الطريق – المحرقة، قبل التاليف وبعده. والأهم في مرحلة ما بعد التأليف، وما يمكن تحقيقه من إنجازات توقف مسار الانهيار والانحدار.
استدراج إلى المحرقة
وما أصاب سعد الحريري وسواه، لا بد أن يصيب نجيب ميقاتي. فهو يرى أنه يكلف بدعم خارجي، فرنسي وأميركي خصوصاً. وبدعم داخلي من قوى كثيرة. لكنه يواجه معارضة شرسة من رئيس الجمهورية ومن تياره العوني، تماماً كالتي واجهها الحريري، ليس بعد تكليفه، بل قبله أيضًا.
آنذاك، وقبل الاستشارات، وجه عون رسالة إلى النواب دعاهم فيها إلى تحمِّل مسؤولية التصويت للحريري، وكأنه يحذرهم مسبقاً: أنا رئيس الجمهورية لا أريد الحريري، ولن أوقع على مرسوم حكومة يشكلها.
حالياً تختلف آلية عمل عون مع ميقاتي: يقول إنه مستعد للتعاون معه، وقادر على تدوير الزوايا. لكنها اللعبة إياها التي تتضح في مسار استدراج ميقاتي إلى المحرقة، وضرب ذلك المبدأ الذي كرسه عون: تقديم القوي في طائفته إلى مناصبها السياسية الأولى، ويجعل من حق الحريري ثم ميقاتي مكلفاً برئاسة الحكومة.
على طريق بعبدا والبياضة
ويُفترض بميقاتي أن يكون على يقين بذلك. لكنه قد يظن نفسه – والإنسان بطبعه ظنون – أنه قادر على تجاوز العقبات كلها، مستنداً إلى قناعة تقول إن عملية ترك كل شيء في البلاد يتآكل وينهار تماماً، لا يمكن أن تكون مقبولة. ولا شك في أن هناك حاجة محلية ودولية لتشكيل حكومة، ولو للوصول إلى تحسن جزئي.
وميقاتي يعتبر أنه بالدعم المتوفر له قادر على تحقيق ذلك التحسن. لكنه سيجد نفسه على طريق تتكاثر فيها الأشراك والأفخاخ. طريق سالكة، الخروج من أفخاخها مستحيلة.
وميقاتي يعلم أن الزخم الذي رافق طرح اسمه بدأ يتراجع. وهو يعلم أن التأليف لن يكون سهلاً. فهناك شروط عونية قاسية لا يمكنه تجاوزها كحال الحريري من قبله. لذا عليه مراجعة حساباته، بعدما تلقى إشارات سلبية عدة من عون وفريقه، ومنها التفكير في تأجيل الاستشارات، أو وضعه على سكة الذهاب إلى بعبدا أو البياضة والإياب منهما بلا نتيجة.
ويفترض أن يكون ميقاتي مدركاً هذه المنزلقات. وقد يكون هدفه نيل ورقة التكليف، وبعدها لكل حادث حديث. ولكن لمثل هذه الخطوة تبعات كثيرة، فوق التبعات السلبية التي كرسها الحريري بإقدامه على خطوة مماثلة.
في المتاهة نفسها
وكما تاه الحريري واللبنانيون معه في دوامة تكليفه، سيتوه ميقاتي ومعه اللبنانيون في دوامة التكليف التالي، في حال تكليف ميقاتي. والمتاهة هي إياها: سياسية، وتدهور مالي واقتصادي متواصل. وأنذاك لا ينفع ميقاتي أو سواه الندم، ولا تنفعه نشوة التكليف التي عاشها للحظات عابرة، تمامًا كما لا بنفع الندم مواطن باع دولاراته. وكما تزول لحظات نشوة مواطن حصل على بضعة ليترات من البنزين.
ولنفترض أن ميقاتي نجح في تشكيل حكومة. فما الذي يفعله بالتحديات المطروحة: إعادة الاعتبار إلى الدستور، وللسياسة الخارجية، والبرنامج الاقتصادي الإصلاحي الذي يبدو متعذراّ داخلياً، ووفق رؤية جهات دولية كثيرة.
أما رهان ميقاتي على الفرنسيين فليس في محله. وذلك بسبب الاخفاقات الكثيرة التي مني بها الفرنسيون منذ إطلاق مبادرتهم. واضطرارهم أكثر من مرة إلى التراجع عن شروطهم، وصولاً إلى القول إنهم يفضلون تشكيل حكومة، ولو غير مكتملة المواصفات.
ويبحث الفرنسيون عن فرصة للحفاظ على ماء الوجه، وإنقاذ مبادرتهم لاستخدامها في الحسابات الانتخابية الفرنسية، وتجنباً لإعلان الهزيمة. وتلك كانت محاولتهم مع الحريري حتى أصبح إنقاذ فرنسا وسمعتها يقتصر على عقد لقاء بين الحريري وباسيل. وبعد فشلها لجأت باريس إلى الغضب والتهديد بالعقوبات. ثم مالت نحو قوى المجتمع المدني، مركزة على دعمها خوض الانتخابات. وحالياً تميل باريس إلى ميقاتي وإعادة إنتاج حكومة من الطبقة السياسية إياها التي كانت تنوي فرض عقوبات عليها. وهذا لا يدعو إلى غير الأسف والحزن على الدور الفرنسي.
وعلى ما تقول جهات خارجية متعددة، فإن ميقاتي أو غيره لن يكون قادراً على إخراج لبنان من أزمته. ولا على تحقيق برنامج إصلاح. فالمشكلة في بنية الدولة ووجهتها، وهي مخطوفة لحساب المحاور. وهذا لا يمكن أن يقود إلى إنقاذ أو إصلاح. وهو ليس سوى مزيد من هدر الوقت وانتظار الانتخابات النيابية على وقع الانهيار الكبير والمدمر، والذي قد يستدعي تدخلاً دولياً كبيراً، لأن لا مقومات للحل في لبنان.