السعودية تعود بقوة الى لبنان
يبدو أننا في لبنان على أعتاب مرحلة جديدة، بمعادلات سياسية جديدة وتوازنات قوى جديدة. نقول يبدو لأن لا شيء محسوماً في المعادلات التي تحكمها تطورات ومتغيّرات غير ثابتة. إلا أن ما نحن مقبلون عليه إذا ما استمر على نفس الوتيرة التي هو فيها اليوم، فمن شأنه كسر “الستاتيكو” الذي نعيشه وبدأ يُفرض علينا منذ العام 2008 بفعل أن هناك من تمكّن من إفقاد المتغيّرات لمفعولها على الداخل اللبناني، بحكم تمكّنه من الهيمنة على المسرح السياسي اللبناني، والحديث هنا عن “حزب الله”، والتفاهم الجهنمي الذي أبرمه مع “التيار الوطني الحر” من جهة، كما تراجع أغلبية من كان يُفترض بهم مواجهة هذا المشروع، وكل منهم لسبب معيّن، بحيث أن المواجهة رُميت على عاتق فريق واحد. وللحقيقة والتاريخ نجح هذا الفريق في الوقوف ثابتاً في مكانه، الأمر الذي منع الدولة من السقوط في براثن محور الممانعة، إلا أن ذلك لم يمنع القضاء على البلاد من الناحية الإقتصادية والمالية والنقدية فداءً لمصالح محور إقليمي يحمل مشروعاً تتخطى حدوده منطقة الشرق الأوسط والدول العربية بأكملها، و”كرمى عيون” شهوانيّة سلطوية عمياء.
وعلينا في هذا الصدد، أن ندرك تماماً أن هناك نوعان ممن يتعاطون السياسة في لبنان لأي جهة انتموا، النوع الأول بخلفية علمية، لديه منطلقات فكرية واضحة، ويركن إلى المعادلات الحسابية لاحتساب كل تطوّر ومستجدّ ومتغيّر من أجل أن يشق طريقه نحو هدفه الواضح، والنوع الثاني من خلفية أدبية، جلّ ما يتقنه هو الشعر وصفّ الكلام المنمّق تبعاً لقاعدة “ما يطلبه المستمعون”، لا مشروع وطني لديه، وجلّ ما يتحكّم به هو مصالحه الشخصية السلطوية، ولا يمتهن سوى الشعبوية ويتقن فن الكذب والرياء.
أما الأخطر في هذه المسألة، هو الرأي العام الذي إذا ما كان ينجرف تبعاً للموجة، فإنه عندها عرضة بشكل كبير لأن ينتهي به المطاف في أماكن هو لا يريدها أساساً، وهذا ما حصل مع الموجة التي خُلقت ونُظّمت ونُفّذت لـ”التيار الوطني الحر”، واستفاق من ريائها الرأي العام مؤخراً، تبعاً لما يقوله الفيلسوف الأميركي إريك هوفر: الدعاية السياسية لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خداع أنفسهم.
أما بالنسبة لاحتمال تبدل المعادلات السياسية التي من شأنها فرض توازنات قوى جديدة، فتؤكد أوساط سياسية، أنه أصبح معلوماً أن سبب انكفاء المملكة العربية السعودية عن لبنان، كان عدم قيام الدولة اللبنانية بمسؤوليتها تجاه منع استهداف الرياض من بيروت، إن بالموقف السياسي أو بالمخدرات، أو من خلال لعب أدوار أمنية انطلاقاً من لبنان لزعزعة أمن الدول العربية، وهو الدور الذي يقوم به “حزب الله” على المستوى السوري واليمني، وبالتالي، بما أن الدولة اللبنانية غير قادرة على فرض سيادتها ومنع استخدام لبنان كمنصّة لاستهداف الدول العربية، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية اتخذت الأخيرة قرار الإنكفاء عن لبنان.
ولفتت الأوساط، إلى أنه في الأسابيع الأخيرة أصبح واضحاً أن هناك تطورات جعلت المملكة تعود إلى قلب الحدث السياسي اللبناني، حيث أن التطوّر الأول كان في اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء خارجية واشنطن وباريس والرياض، هذا اللقاء، الذي عُقد في روما عشية اللقاء الفاتيكاني الذي دعا له الحبر الأعظم، وجّه رسالةً واضحة المعالم بأن الرياض التي تشكّل مركز ثقل أساسي على مستوى المنطقة عربياً، وبشكل خاص سنّياً، هي محور تشاور أساسي في الملف اللبناني سعياً لحل الأزمة اللبنانية.
بالنسبة للتطوّر الثاني، فكان من خلال زيارة سفيرتي الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في لبنان للرياض للقاء المسؤولين السعوديين سعياً لحلحلة التأزّم الحكومي والتشاور مع المسؤولين السعوديين في ما يمكن القيام به.
أما التطوّر الثالث، فكان من خلال اللقاء الذي شهدناه في الأمس في الصرح البطريركي في بكركي، والذي كان جامعاً وضم معظم القوى السياسية في لبنان وشهد كلاماً عالي النبرة وواضحاً إن من غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، أو من السفير وليد البخاري، لجهة دور السعودية تاريخياً بالحرص على استقلال لبنان وسيادته وديمقراطيته وفرادة العيش المشترك فيه ورفضها القاطع تغليب فئة على أخرى، كما حرصها على الدستور ومنطق الدولة.
والتطوّر الرابع، هو أن هذا اللقاء في بكركي أتى بتوقيت مميّز على مسافة أقل من أسبوع على اللقاء الفاتيكاني، وكأن هناك رسالةً واضحة المعالم موجّهة من قبل المملكة العربيّة السعوديّة لقداسة البابا فرنسيس، مفادها أنها شديدة الحرص على التلاقي والتقاطع مع المسعى البابوي، فبعدما كان الفاتيكان قد نظّم لقاءً روحياً تحت عنوان لبنان تقصّدت الرياض الإطلالة من بكركي لكي تقول له أنها حريصة على الدور والحضور المسيحي في لبنان كما أنها حريصة على لبنان وطن الرسالة في هذا الشرق.
إلا أنه يبقى السؤال الأساس في كل هذا السياق، وهذه العودة السعوديّة إلى المسرح اللبناني هو: كيف ستتلقى إيران هذه العودة؟ وكيف ستتعامل معها؟ فبحسب الأوساط، هذا الأمر فُسّر من خلال مقدّمة نشرة تلفزيون “المنار”، بالأمس التي شنّت هجوماً صاعقاً على زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية إلى السعودية، في رسالة واضحة بأن هنالك خشيةً إيرانية كبيرة، من العودة السعودية القوية إلى المسرح اللبناني، ولا يمكن أن نفسّر ردّ الفعل هذا الذي شهدناه سوى أن محور الممانعة بدأ يستشعر وبقوّة العودة السعودية من لقاء روما إلى زيارة الرياض وصولاً إلى لقاء بكركي.
في الختام، هناك عدد كبير من الأسئلة التي تنتظر الإجابة عليها من أجل أن تتوضّح الصورة وتُسدل الستارة عن المعادلات السياسية الجديدة، وهي: هل الرسائل الإيرانية ستتواصل؟ وكيف ستتعامل طهران مع هذا التطوّر؟ هل ستقف الرياض عند هذا الحدّ أو ستذهب أكثر فأكثر نحو الدفع باتجاه حل المسألة اللبنانية بالتعاون مع واشنطن وباريس واستطراداً الفاتيكان؟ ما هي آفاق هذا الحراك الدولي، وما هي حدوده، وإلى أين من الممكن أن يصل؟ كيف يمكن أن تتابع المملكة خطواتها؟
كلها أسئلة أساسية، والإجابة عليها هي رهن بالتطورات التي سنشهدها في الأسابيع المقبلة، والتي ستحدّد الردّ الإيراني ومستواه من جهة، وحدود الحركية السعودية والدولية من الجهة الأخرى، الأمر الذي من شأنه أن يحدّد إذا ما كنا دخلنا مرحلة سياسية جديدة في لبنان بمعادلات سياسيّة جديدة من شأنها أن تتمكن من كسر “ستاتيكو” الأمر الواقع أم أنها مجرّد زوبعة في فنجان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع