باسكال صوما – صحافية لبنانية
أكّد لي صاحب محطّة البنزين أنني لا أستطيع تقديم شكوى ضدّه، حين هدّدته بذلك. قالها مرتين: “ما فيكي يا مدام”.
لكنني كأي مواطن مثير للشفقة في مفهوم المواطنة عندنا، اتصلت بأمن الدولة وأخبرتهم، كما يخبر طفل ساذج معلّمته أن طفلاً “مدعوماً” ضربه. تكون المعلّمة أمله الوحيد إلى أن يكتشف أن السلطة التي تملكها المعلّمة لا تشمل جميع الأطفال.
هي نفسها حكاية الدول والدويلات التي داخل الدولة. فدولة أصحاب المحطات التابعين لأحزاب وتيارات، أكبر من الدولة، سماسرة التهريب على الحدود مع سوريا، دولة لا تخضع للدولة، المخبرون، الموظفون، أصدقاء أصدقاء الوزير، أبناء عم جد خالة زميل مرافق النائب… كل هؤلاء دول أكبر من الدولة.
قال لي رجل الأمن إنّ هذه المحطة تسبب له المتاعب. فهمت بشكلٍ ما أنني فشلت في تحصيل حقي، وقد حاول آخرون قبلي. لا أعرف ماذا حصل بالمحطة التي كانت تبيع البنزين في “الغالونات” وتمنعه عنا نحن الواقفين في الطابور. خفت أن أمرّ من هناك مرة أخرى، وأدرك حقيقة أن الدويلة هزمتني وأنني مجرّد مواطنة تظنّ نفسها في دولة. لا شيء يوجع المرء كأن يكتشف سذاجته.
الدولة منشغلة الآن بصور عباس ابراهيم مدير عام الأمن العام التي تعلو طريق المطار والجناح… وهنا يحصل تداخل بين “الدولة” التي يفترض أنها سلطتنا الرسمية وبين الدولة الحقيقية (أو الدول) التي يقودها السلاح وأصحاب النفوذ الحقيقي. يحصل أن تتقاطع مصالح دولتين في جمهورية واحدة… وهي مصالح لا دخل لنا نحن المواطنين السذج بها، إنها أكبر منا. فنحن أقصى طموحنا أن نحصل على كهرباء حتى نستحم في آخر نهاراتنا الحارة، أو أن نحصل على تنكة بنزين بلا عناء، أو أن نعرف من قتل 200 شخص في 4 آب/ أغسطس 2020. لكن أموراً كهذه لا تدخل في نقاشات “الدول” التي تتحكّم بأمرنا، لأنها لا تفيدها بكل بساطة. ماذا تستفيد أي دولة من هذه الدول إذا حصلنا نحن المواطنين على الطاقة الكهربائية مثلاً؟ لا شيء يدعو إلى هذا الجهد كله. أثبتت التجربة أن انقطاع التيار يفيد رجالات المنظومة الحاكمة أكثر من بث الضوء في بيوتنا وجامعاتنا ومكاتبنا.
وفق “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو، تقوم الدولة على اتفاق بين الدولة والشعب، لكن العقد الذي يتم تنفيذه بنا، بات بين الدولة والدويلات، أما الشعب فقد تمّ زجّه خارج العقد عنوةً، كطرف يمكن الاستغناء عنه.
كان الإنكليز دولة داخل الدولة في زنجبار، وقد شنوا حرباً ذات مرّة عليها، عام 1896، لأنّ سلطان زنجبار الذي كان دميتهم قد توفي وأتى مكانه سلطان آخر، يبدو أنه لم يحبّ دور الدمية. دامت الحرب 38 دقيقة وهي أقصر حرب في التاريخ، انتهت بتنحي السلطان الجديد وانتصار الإنكليز. قرأت هذه القصة في مكان ما، لكن يحدث دوماً ما يعيدها إلى ذاكرتي، “الدويلة تنتصر دائماً”، والأمر يتطلب غالباً ما هو أقل بكثير من حرب صغيرة، فالمسألة عندنا بغاية البساطة، ترجح الكفة دائماً لهم باتصال هاتفي أو كلمتين “على جنب”… أخشى أن يكون انتصار الدويلات في الدول البائسة حقيقة تاريخية ستتكرر على الدوام.
“750 ألف ليرة أخد مني ابن الـ…”، أتحفّظ على ذكر أسطوانة الشتائم التي أنشدتها صديقة لي وهي تخبر على مجموعة “واتساب” أنّ راتبها لا يتجاوز المليون ونصف المليون ليرة، وفاتورة المولّد الكهربائي قضت على نصفه. أسطوانات الشتائم باتت في كل حال لا تتوقّف، في محطات البنزين، في السوبر ماركت، عند بائع اللحوم، عند بائع القهوة المتجوّل، في سيارات “السرفيس” الذي قفز إلى 8000 ليرة، أمام الأفران.
تتواصل حفلات السباب والغضب في السوشيل ميديا، حيث يحاول المواطنون التعبير عن “التخمة” من المأساة.
قالت سوزان عليوان الشاعرة اللبنانية ذات مرة، “هذا قلبي من هنا مرّ القساة”، وهذا وطني من هنا مرّ الجناة والقتلة!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع