كتب أحمد عزالدين: بديهيات الساعة الرابعة والعشرين.. الجزء الأول.
بقلم أحمد عز الدين:
يبدو أننا نحتاج إلى العودة إلى البديهيات قبيل الساعة الرابعة والعشرين، إذا كنا لا نريد أن ندور في حلقات مفرغة في موضوع سد النهضة، فتأخذنا حلقة مفرغة إلى الدوران في دائرة تخفيض درجة الإحساس الوطني بالخطر، وتأخذنا حلقة أخرى إلى الدوران في دائرة تصغير التهديد الوجودي الذي نواجهه باعتباره مؤقتا أو عابرا، أو يمكن التكيّف معه، وتأخذنا حلقة ثالثة إلى الدوران في دائرة عزله عن التوجه الإستراتيجي الغربي في الإقليم، وكأنه موقع جغرافي معزول، وليس موقعة مفتوحة في حروب الإستراتيجية المضادة تجاه مصر وتجاه الإقليم، ذلك أن في كثير مما يطرح من خيارات وتصورات وحلول، كثير من الإيهام، وكثير من اللغو، وكثير من الرؤى الجزئية التي يبدو أنها لا تطل على المصير الوطني من شرفة مفتوحة، وإنما من ثقب باب مغلق .
لقد صاغ أحد الخبراء الإستراتيجيين نموذجا لحل تبسيطي في مقاربة لمعالجة أمر السد، يمكن أن تطلق عليها مقاربة (فتح البوابات)، فإذا أتموا ملء السد، وأغلقوا البوابات، وشحّت المياه، لن نستغرق سوى 60 دقيقة لفتحها، كي تعود المياه إلى التدفق في مجراها الطبيعي، وهو حل يختزل السد في بواباته، ويختزل البوابات في ميكانيكية الإغلاق والفتح، ويختزل الصراع الوجودي كله في فريقين يتناوبان بالقوة إغلاق وفتح البوابات .
وفيما أحسب فإن اختزال قضية السد في السد نفسه، لا في بواباته فحسب ليس صحيحا، بل إن اختزاله في آثاره المباشرة على الأمن المائي المصري ليس دقيقا، ما أحسبه أن السد ثقل مضاد بحجم مصر، لا بحجمه أو حجم أثيوبيا، وبحجم قيمة مصر لا قيمته أو قيمة أثيوبيا، وبحجم الوجود المصري لا بحجم وجوده أو وجود أثيوبيا، فنحن في الواقع أمام مفصل تحول كامل في وضع مصر على خرائط الجغرافيا السياسية، وعلى خرائط موازين القوى الشاملة، وفي مصير الكيان الوطني كله، وهو مفصل يشكل فرعا أساسيا في إستراتيجية كاملة لإعادة صياغة أوضاع الإقليم ومراكز القوى المهيمنة، ولا شك أن السد في ذاته يشكل أحد القضبان الرئيسية التي تريد أن تتقدم فوقها بالإكراه والقوة قاطرة هذه الإستراتيجية المضادة .
ما ينبغي أن يستدعي الانتباه في بعض هذه الحلقات المفرغة أن ما قد يبدو متناقضا حد الصدام في الرؤى والنتائج والخيارات، ليس متصادما أو متناقضا في الهدف، ذلك أنها تبدو عبر مساراتها، وكأنها تتجمع في نهايات طرفية واحدة، فبعض الذين يرفعون أقلامهم كأنها أعلام النصر، مبشرين بأن المعركة أوشكت على الحسم، لأن أثيوبيا قد سقطت في حفرة عميقة من الفشل في رفع منسوب البناء إل مستوى التخزين المطلوب، يلتقون في طريق واحد، مع ما يصدّره إلى الداخل بعض الإعلاميين والباحثين المصريين في الخارج الذين يقتاتون على ما تقدمه مراكز أبحاث وإعلام غربية، تضمهم معها أحزمة من المصالح، وقد أصبح خطابهم هو الأكثر وضوحا وتعبيرا عن المطلوب غربيا، وهو لا ينتهي فقط عن نبذ مبدأ استخدام القوة المسلحة ( طالما سيتم الملء بما لا يؤثر على حصة مصر ) بل إلى ضرورة تجريم أصوات المصريين ( الاستفزازية التي تضغط على حكومتهم لضرب السد).
ومن المؤكد أن تلك الأصوات الصاخبة من جماعة الإخوان المسلمين التي لم تكف عن دق الطبول وعزف الموسيقى النحاسية لبدء الهجوم فورا تتجمع بدورها في نفس النهايات الطرفية مع الأنماط السابقة، فالمادة الخام التي تنتجها يعاد إنتاجها من قبل هذه الأنماط في صورة مضادة، فإذا كانت الجماعة لا تريد الخير لمصر، فإن دعوتها إلى الحرب هي الشر الذي ينبغي تجنبه .
أعتقد أن أسوأ ما أنتجته عقود سابقة هو بناء ما أطلقت عليه في دراسة مطولة اسم ( نخبة التكيّف ) وهي نقيض نخبة الأمن القومي، حيث ترى أن مصر عليها أن تغير في ذاتها ومكوناتها الأساسية بما يتطلبه أن تكون مقبولة غربيا، ومطلوب منها لذلك أنها كلما عبرت بمنحنى ضغوط خارجية، كلما سعت بآلية جاهزة إلى التكيف مع الشروط التي تفرضها هذه الضغوط، أو إلى تحسين بعضها في أفضل الأحوال، لكن أخطر ما في عناصر هذه النخبة فكريا، هي التي أقامت جسورا بين أصولها السلفية وبين الأدبيات الغربية، في طبعاتها الاقتصادية أو السياسية أو الإستراتيجية، فأحاطت قلبها السلفي بأنسجة باهتة من الحداثة والليبرالية الغربية، أو قل من الحصانة الغربية .
لقد أطل أحد هذه العناصر تليفزيونيا مستخدما بعض المصطلحات والمفردات الجارية في أدبيات الأمن القومي الأمريكي لتمرير قناعة بصعوبة مواجهة السد في السياق العسكري، مستعيرا من هذه الأدبيات نفس المفردات التي دأبت على استخدامها الأنماط السابقة، كاستبدال تعبير ( الحقوق ) بتعبير ( المصالح ) فالحقوق تخص الأمة، أما المصالح فهي تخص أفرادا أو جماعات أو طبقة أو حزبا أو نظاما، كما أن الحقوق بالغة التحديد، بالغة الثبات، أما المصالح فهي فضفاضة فضلا عن أنها متغيرة، وهي الوجه الآخر لتعبير ( الضرر ) والذي هو بدوره فضفاض ومتغير، وقد تم التوسع في استخدامه بديلا لتعبير آخر هو ( العدوان ) وبعيدا حتى عن تلك المقارنات الشاذة عن استخدام القوة في الحالة المصرية، قياسا على حالات استخدامها أمريكيا كما في فيتنام أو العراق، فإن مثل هذا الخطاب لا يطلق هواءا باردا في الشارع المصري، وإنما يرمي لهبا في صدور الناس بتأكيده على وجود مسافة بين ( القوة المصرية ) و ( القدرة المصرية ) أو بين القناعة الوطنية باستخدام القوة في آخر المطاف، وبين غياب قناعة دولية بذلك، أو بأن الإجابة على سؤال عن نتائج اليوم التالي بعد الضربة ليست جاهزة، وكأن الإجابة على سؤال عن نتائج اليوم التالي بعد الملء هي الجاهزة .
إذا كان المطلوب هو الاحتكام إلى مفاهيم الأمن القومي الأمريكي، بديلا عن مفاهيم الأمن القومي المصري الأكثر غنا وثراءا وخصوصية، لتكريس قناعة بعينها فالأولى العودة إلى تعريف واحد من أعمدة المدرسة الأمريكية، لا إلى هوامشها، وهو على سبيل المثال ( والتر ليبرمان ) أما نص تعريفه فهو : ( تتمتع الدولة بالأمن عندما لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتجنب الحرب، وتكون قادرة على الحفاظ على مصالحها بالحرب إذا شعرت بالتهديد ).
في التوقف أمام بعض البديهيات في الساعة الرابعة والعشرين، فإن البديهية الأولى تقول أن حبس سد النهضة في بنيانه، أو في صورة صراع بين مصر وأثيوبيا، وتجريده من موقعه فوق خرائط الإستراتيجية الأمريكية، وعزله بالتالي عن بقية مفرداتها وأنماطها، سواء في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا والبحر الأحمر وإسرائيل واليمن والخليج العربي، بما في ذلك امتدادات هذا المسرح الكبير في قلب المحيط الهندي، إنما يشكل رؤية جزئية أو جانبية سواء أكانت ضالة أو مضللة .
إن عمر الحرب على اليمن التي أذيع بيانها الأول من واشنطن يكاد هو نفسه أن يكون عمر بناء هذا السد، الذي هو بالضرورة جزء هام في بنية هذه الإستراتيجية، والمسألة هنا ليست توافقا بالمصادفة في التوقيت، وإنما تداخلا موضوعيا بالنتائج التي كانت متوقعة من العمل العسكري ذاته الذي اندمجت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، رغم أن موجته الدموية العالية لم تتمكن بفعل المقاومة من الوصول إلى شاطئها، وفي دائرة التوقيت ذاته ( 2014 ) وحسب وثائق كشفها حزب ميرتس الإسرائيلي، تم توقيع مذكرة سعودية إسرائيلية خاصة بتنظيم الملاحة في البحر الأحمر، واتفاق مشترك بخصوص باب المندب في إطار مقدمات مشروع متكامل – نصوصه موجودة وحاضرة – تحت اسم ( تحالف البحر الأحمر والخليج) وهو جزء من مشروع أكبر يتم على أساسه نقل محور الدفاع عن الخليج من المحيط الهندي إلى إسرائيل، وجمع أمن الخليج والقرن الأفريقي وشرق أفريقيا و امتداداته، مع أمن إسرائيل في سلة واحدة، ونقل الباب والقفل والمفتاح بين البحار والمحيطات في نصف الكرة الأرضية الغربي ونصفها الشرقي من قناة السويس إلى باب المندب .
فوق هذا المسرح الكبير أقيمت تحالفات ودبجت اتفاقيات وفُتحت رؤوس جسور لتعبر فوقها الأسلحة والأموال والنفوذ، كي يكتمل قوس كبير حول مصر .
المصدر: أحمد عز الدين