أين هي العقول النقديّة التي حلّلت حال العجز بعد 67؟
ناصر قنديل-البناء
– يتزامن إحياء ذكرى حرب عام 67 التي هُزمَت خلالها الجيوش العربية أمام جيش كيان الاحتلال خلال أيام قليلة، وانتهت بسقوط مناطق عربيّة شاسعة ومنها القدس تحت الاحتلال، مع إحياء ذكرى رحيل الإمام الخميني قائد الثورة الإيرانية التي أسست لتحوّلات في المنطقة، كان أهمها رعاية ولادة ونمو وقوة وحضور محور المقاومة، وصولاً للانتصار الباهر للمقاومة في معركة سيف القدس التي أذلت كيان الاحتلال وجيشه، وعرضت مدنه الكبرى لصواريخ المقاومة، وفرضت عليه الهروب من مواصلة المواجهة البرية، وطلب وقف النار دون أن يحقق أي هدف يتصل بإضعاف المقاومة، وبمثل ما كشفت هزيمة عام 67 عن ضعف مشروع الدولة الوطنية في البلاد العربية، تتزامن هذه الإحياءات اليوم مع مفاوضات ندية تخوضها الدولة الإيرانية التي أنشأتها ثورة الإمام الخميني مع الدولة الأعظم في العالم التي تمثلها أميركا، عنوانها التسليم الأميركي بالفشل بإخضاع إيران، التي نجحت بتقديم نموذج مبهر للنجاح في بناء الدولة الوطنية، في عناوين الاستقلال الذي يترجمه الصمود والتمسك بدعم حركات المقاومة، والتنمية الاقتصادية والتقنية التي يمثل أعلى مراتبها الملف النووي، والاقتدار والقوة، كما يقول برنامج إيران الصاروخي.
– بالقياس والمقارنة، لم نشهد أي نشاط فكري ونظري على مستوى المنطقة يدرس ويحلل هذه المفارقات، بعدما شهدنا خلال نصف قرن مئات الكتب وآلاف المقالات، تحت عنوان محاولة فهم أسباب الهزيمة عام 67، وظهر باحثون وكتاب بمراتب لامعة من التقدير كفلاسفة جدد، لأنهم صاغوا نظرياتهم على خلفيّة نقد الهزيمة، وفكر الهزيمة، وصولاً للحديث عن خلل بنيوي في الفكر الشرقي، أو العربي، او المشرقي، القومي والإسلامي، بل وصل البعض للحديث عن خلل في العقل العربيّ نفسه، مستنداً الى دراسات الشعر والأدب والأمثال والحكم، وربط كثيرون بين النهضة المنشودة والتخلص من الدين، ودعا آخرون إلى اتباع النموذج الغربي في بناء الدولة الديمقراطية واحترام معاييرها الصارمة، ونمطها في مقاربة التنمية والواقعية السياسية، كشرط للنهوض من التخلف، بينما تحدث اليسار الفكري بكل مكوّناته القومية والتقدمية، عن تغيير الأنظمة الحاكمة وبناء دولة شعبية قوية ومقتدرة، ووصل بعضه لاشتراط قيام دولة الوحدة لتوفير شروط مواجهة متكافئة مع الكيان وجيشه، وتحدّث آخرون عن السباق التربوي والتعليمي والبحثي كمعيار للفوز بسبق المواجهة مع الكيان، بينما ربطه غيرهم بالفوز بتشكيل وتمويل لوبيات عاملة على الرأي العام الأميركيّ بصفته بيضة القبان في السياسات الأميركية، التي تملك وحدها إحداث خلل في موازين القوى مع الكيان.
– يأتي المثال الذي قدّمته إيران، التي يشبّهها الباحثون الغربيون بالنموذج الصيني، ويتحدّث بعضهم عن نهضتها التقنية مقارناً تجربتها بألمانيا واليابان، ليقول إن بناء الدولة القوية والإخلال بموازين القوى مع كيان الاحتلال، هدفان ممكن بلوغهما من دون المرور بالقوالب الجاهزة التي قدّمها من حملوا ألقاب المفكرين والفلاسفة خلال نصف قرن مضى، ففي لبنان نهضت المقاومة وحرّرت دون السيطرة على السلطة، بل وفي ظل الحرب الأهليّة والانقسام الوطني، ودون وحدة عربية ولا تضامن عربي، بل في ظل تآمر أغلب النظام العربي، وذلك عبر وصفة محليّة جمعت الوطني والقومي والديني بمعادلة الأولوية لدحر الاحتلال والإخلاص لأولوية غير قابلة للتعديل والتبديل هي هزيمة المحتل، وجاء مثال إيران لبناء الدولة ليقول إنه يمكن بناء دولة متقدّمة وقوية ومستقلة، بمصالحة العلم والدين والهوية القوميّة، بوصفة صنعت محلياً تضع المعيار للصدق والإخلاص في خدمة أهداف بناء دولة الاستقلال والتنمية والاقتدار، لكن لم يكلف المفكرون والمثقفون والفلاسفة الذين أهرقوا أطنان الورق والحبر على ممارسة نقد ما بعد الهزيمة، ليشتغلوا على نقد النقد بعد الانتصار، ولعل أول ما يحتاج إلى إعادة النظر هو موقع المثقفين العرب من القضايا الفكريّة الجديّة، عندما يجد بعضهم سبباً لتعظيم ديمقراطيّة غربية في ظل نظام ملكي لا يراه قيداً على تداول السلطة، ولا نتحدث هنا عن الذين يطبّلون ويزمّرون لأنظمة التطبيع العربية ويسوقونها كأمثلة على التنمية، وهي ليست بفقد الاستقلال والهوية والكرامة الوطنيّة دولاً بل مجرد شركات كما هو حال هونغ كونغ، بينما يستغرق هؤلاء وأولئك في شيطنة النموذج الإيراني وتسخيف جديته وصرامته في مواصلة العمليات الانتخابية التنافسية طوال أكثر من أربعة عقود، ويجد في ولاية الفقية سبباً كافياً للشيطنة، فيصير السؤال مشروعاً عما إذا كان نقد الهزيمة ذريعة لنقد الأنظمة الوطنية التي تجرأت على شقّ عصا الطاعة على الغرب وإعلان العداء لكيان الاحتلال، ولهذا لا تكون جريمة إيران ومحور المقاومة في عدم الانضباط بدفتر شروط الديمقراطية التي بشر بها هؤلاء المثقفون والمفكرون والفلاسفة، بل لأنهم أذلّوا كيان الاحتلال.