تحقيقات - ملفات

معضلة “المثقف الإسرائيلي” بين معاداة السامية… أو الصهيونية

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com

تُعد حالة الجدل اليهودي الجديد المُثار حول معاداة الساميّة خير مثال على الصعوبات المتزايدة التي يواجهها المفكرون في الساحة الثقافية…

كيف تنتصر على خصمك في المضمار الأيديولوجي؟

الأمر بسيط: اعثر على شعار أو عقيدة فكرية مكروهة وحاول ربطه بها. يمكنك مثلاً وصف اليساريين بأنهم حفنة من الخونة أو الفاشلين، وذكر العامة دائماً بِـ”تشامبرلين”. يزخر عالم السياسة بالكثير من المفاهيم والشعارات والتصورات المُحَرّفة، والتلاعب بتلك التصورات هو جزء حاسم في الحرب الأيديولوجية. ويبقى الخلط بين الشعارات وإثارة البلبلة حولها من الأساليب التكتيكية التي دأب مروجو البروباغاندا من التوجهات والمذاهب كافة على اتباعها.

ظلت محاربة معاداة الساميّة بعيدةً من معترك عالم السياسية الشرس، إلا أنها أصبحت خلال العقدين الماضيين مُسيَّسةً ومرهونةً بالتلاعب الذي عانت منه الساحة الفكرية. ففي إسرائيل، تم توظيفها من الحكومة في إطار حملة واسعة تهدف إلى تبييض سياسة الدولة. ترتب على عملية التبييض تلك تشكيل قوائم سود بأسماء المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والأكاديميين والفنانين والصحافيين وحتى المواطنين العاديين الذين اعترضوا على استمرار احتلال إسرائيل الأراضي وتجريد الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الإنسانية.

لا يتم إسكات المعارضة في إسرائيل من خلال وسائل الرقابة الرسمية، وإنما من خلال وصم أفرادها وإلصاق التهم بهم. يمكن بسهولة وصف الانتقادات الموجهة للسياسات الإسرائيلية بأنها “معادية للصهيونية”، وتعتبر معاداة الصهيونية بدورها فئة فرعية من معاداة الساميّة. بالتالي، يعد توجيه النقد لإسرائيل فعلاً معادياً للساميّة. وبهذا القياس العقلي، يتحول أيّ نقد موجه للسياسات الإسرائيلية (مجرد إبداء الرأي حولها) إلى نقد للجوهر والهوية (صادر عن شخصٍ معادٍ للسامية)، وهي تهمة لا يمكن أيّ سياسي أو شخصية عامة أن يأمل في التخلص منها يوماً ما.

كثير ممن ينتقدون السياسات الإسرائيلية هم أنفسهم إسرائيليون ويهود.

بعض القضايا أكثر عدلاً من محاربة معاداة الساميّة. وبعض القضايا يجب أن يكون أقل إثارة للجدل. ينبغي بالطبع أن تتصدر معاداة الساميّة النضالات ضد العنصرية، لأنها من أقدم أشكال الكراهية الجماعية ولأنها بلا شكٍ من أكثرها فتكاً (إذ يقدر أن ثلثي إجمالي اليهود الأوروبيين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية). لكن تلك القضية أصبحت موضعاً للخلافات و الجدالات التي شوشت على مضمونها الحقيقي.

كثير ممن ينتقدون السياسات الإسرائيلية هم أنفسهم إسرائيليون ويهود.  ويترتب على ذلك أن جزءاً لا يستهان به من فئة المعادين للساميّة الجديدة أصبح الآن يهودياً، وهو ما يجعل صميم فكرة معاداة السامية عبثياً في أفضل الأحوال، وهزلياً على نحوٍ محزن في أسوأها. مما يزيد من سخافة هذا الوضع هو اختراع المصطلح المتعجرف “معاداة الساميّة الجديدة”، الذي من المفترض أنه يعبر عن هذه الطائفة الجديدة المتنوعة من المعادين المزعومين للساميّة.

أحدث الضحايا لهذا التوجه هي منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم”، التي وصفت نظام الفصل بين السكان اليهود والسكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بأنه “نظام فصل عنصري-أبارتهايد“. وكان لا بد لتحديد ما إذا كان اختيار هذا اللفظ حكيماً أم لا، أن يخضع الموضوع لمناقشة تجري على أساس تحليل متأنٍ لِلخرائط والأنظمة السياسية والجيوسياسية.

لكن بدلاً من ذلك، تلقف من يُطلق عليهم أنصار إسرائيل تعبير “أبارتهايد” على الفور واعتبروا المنظمة معادية للساميّة لأنه، بانتقادها لإسرائيل، استدعت المنظمة تقليداً قديماً: ألا وهو حملات تشويه اليهود وشيطنتهم (بهذا المنطق، سيصبح أيّ انتقاد لإسرائيل غير مشروع وتذكير بِحملات شيطنة اليهود).

منتهجةً طريقة التفكير ذاتها، لاحظت منظمة “إن جي أو مونيتور” اليمينية (أو منظمة رصد المنظمات غير الحكومية) -وهي منظمة رقابية نصبت نفسها لإحباط مخططات منتقدي إسرائيل- أن استخدام تعبير “أبارتهايد”، “في سياق صراع سياسي ينتقص أيضاً من معاناة ضحايا نظام الفصل العنصري الفعليين في جنوب أفريقيا”.

يعد هذا التعليق مثيراً للسخرية بما أن هذا هو تحديداً ما يُقلق من يحاربون ضد تسييس قضية معاداة الساميّة: محاولتهم تجنب الانتقاص من ذكرى ومعاناة ضحايا معاداة الساميّة من خلال اتهام كل من يوجه أيّ انتقاد لِسياسات إسرائيل بأنه من المعادين الحقيقيين للساميّة وأحد المخلصين الأوفياء حتى النخاع لتلك الفكرة.

بغض النظر عن مدى سذاجة تلك الانتقادات الموجهة لإسرائيل، فإن كثيراً منها (وليس كلها) ليس معادياً للساميّة، على الأقل ليس بالمعنى الذي أضفاه تاريخ يهود أوروبا على تلك الكلمة. (منتقدو إسرائيل لا ينتقدون اليهود تحديداً باعتبارهم مجموعة إثنية، ولا ينادون بإبادة اليهود من قبل مجموعات إثنية أو عرقية أخرى، ولا يطالبون برحيل اليهود من أوروبا).

السؤال الوحيد الذي ما زال مطروحاً للمناقشة هو ما إذا كان الاعتقاد بأنه لا داعي لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي هو أمر معادي للساميّة أم لا؟ ولا أظن أن الرد على هذا السؤال يتوقف على السياق الذي طُرح فيه (ينطبق هذا الوضع على كثير من اليهود الأرثوذكس المتطرفين أو بعض المثقفين في المهجر مثل جورج شتاينر الذي أعلن أنه “معادي للصهيونية” ).

كثر من منتقدي إسرائيل متهمون في معظمهم بالانحياز إلى جانب الفلسطينيين الضعفاء والمجردين من حقوقهم: بسبب رفضهم اعتبار أن الإسرائيليين هم الضحايا، ورفض قوانين المواطنة الإسرائيلية لأنهم يرون أنها عنصرية، وإغفال الأخطار الحقيقية التي تهدد وجود الدولة اليهودية، وتحميل إسرائيل المسؤولية أمام المعايير الأخلاقية التي لا تستخدم في دول أخرى تتسم بالقدر ذاته من العنف.

وعلى رغم أن مثل هذه الآراء قد تكون إشكالية أو لا تستند إلى القدر الكافي من المعلومات أو تثير جدلاً، فإنها تختلف جوهرياً عن مفهوم معاداة الساميّة، الذي ينسب الطبيعة والتأثير الشيطانيان لليهود ككل أو لإسرائيل، والذي يهدف إلى تطهير العالم منهما. في معظم الأحيان يكون الأشخاص المعادون للساميّة حتى الصميم هم أولئك اليمينيين من أمثال أنصار دونالد ترامب، الذين حظوا بتأييد كبير للغاية من المنظمات اليمينية اليهودية، سواء في الولايات المتحدة أو في إسرائيل. لكنني إلى الآن لم أر أيّاً من تلك المنظمات اليمينية يتهم أنصار ترامب بمعاداة الساميّة.

ومما يزيد الأمور تعقيداً أن بعض الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل هي في الواقع معادية للساميّة. ماذا إذاً في وسع المثقفين اليهود فعله في مواجهة هذا الواقع المعقد والمفخّخ؟ يبدو أن البدائل المتاحة أمامهم صيغت بطريقة مستحيلة، فهم أمام خيارين: إما الانضمام إلى صفوف من يناضلون من أجل بناء إسرائيل الديموقراطية، وفي سبيل ذلك يواجهون خطر الوصم بأنهم معادون للساميّة؛ أو جعل الكفاح ضد معاداة الساميّة هو الهدف الرئيسي للشواغل الأخلاقية، على حساب تجاهل الظلم التاريخي الذي يرتكبه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين.

يُعد “إعلان القدس حول معاداة الساميّة”، الذي ساعدتُ في صياغته ووقعتُ عليه، أحدث المحاولات الرامية إلى تحقيق التوافق بين كلا الكفاحين. ومن خلال التمييز الواضح بين النقاش المشروع للآراء حول السياسات الإسرائيلية من جهة، وبين تأصيل اليهود باعتبارهم غير وطنيين أو أنهم أشرار أو مسيطرون على العالم من جهة أخرى، يهدف الإعلان إلى تمكين الكفاح ضد معاداة الساميّة من استعادة تركيزه ووضوحه الأخلاقي. ومن ثَمَّ، يرمي الإعلان إلى تصحيح الالتباس الناجم عن “التعريف العملي” المستخدم على نطاق واسع والذي اقترحه عام 2016 “التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة”، والاستغلال السياسي لهذا التعريف. وقد كان هذا التعريف بمثابة المسودة الأولية التي استند إليها القرار الذي أصدره البوندستاغ الألماني عام 2019 الذي وصف حركة مقاطعة إسرائيل بأنها معادية للساميّة؛ فضلاً عن أنه أثر في الكثير من الولايات الأميركية، التي تعهدت الآن بعدم العمل مع الشركات التي تدعم هي نفسها حركة مقاطعة إسرائيل ذاتها؛ وشكلت أفعال مفوّض الحكومة الاتحادية وآرائه حول مُكافحة معاداة الساميّة في ألمانيا، الذي كثيراً ما يصف اليهود الذين يدعون إسرائيل إلى التمسك بالقيم الديموقراطية، بأنهم معادون للساميّة.

يُمكن أن نختلف مع حركة مقاطعة إسرائيل، وعلى رغم ذلك ندعم حق مؤيديها في إبداء آرائهم. إذ إن المقصد من حرية التعبير هو إتاحة المجال أمام مجموعة متنوعة من الآراء، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة في نهاية المطاف، للتنافس في ما بينها.

فقد أحدث اليمين السياسي الإسرائيلي، من خلال وصف المعارضين والمنتقدين لإسرائيل بأنهم معادون للساميّة، صدعاً لم يسبق له مثيل في صفوف الشعب اليهودي، فهو انقسام تحظى فيه المصالح السياسية لدولة إسرائيل بالأولوية على حساب تضامنها مع اليهود الليبراليين؛ ويُؤيد أهداف السياسة الداخلية الإسرائيلية على حساب الكفاح ضد معاداة الساميّة. بيد أن هذه الاستراتيجية كانت لها تأثيرات مذهلة وغير مقصودة: فقد ساهمت في الحد من التزام اليهود بعرقهم ودينهم، وجعلتهم بدلاً من ذلك يُعرّفون أنفسهم بصورة متزايدة على أساس انتماءاتهم السياسية. من المحتمل أن يؤدي استغلال معاداة الساميّة كسلاح إلى تفاقم الانقسام العميق بالفعل بين أوساط الشعب اليهودي، بين أولئك الذين يحاربون معاداة الساميّة باسم مبادئ العدالة الدولية، وأولئك الذين سيجعلون الكفاح ضد معاداة الساميّة جزءاً لا يتجزأ من السياسات التوسعية الإسرائيلية.

لا شك في أن هذا الانقسام العميق داخل صفوف الشعب اليهودي يعكس أزمة أوسع نطاقاً على الساحة السياسية والفكرية ككل. فقد صارت مناقشة الآراء تُستبدل على نحو متزايد بما أطلق عليه “منطق النقاء والدَّناسة”. فمن خلال وصف مؤيدي حركة مقاطعة إسرائيل أو حتى المناهضين لها (من أمثالي) بأنهم معادون للسامية، يحجم أنصار السياسات الإسرائيلية، بناءً على هذا التعريف، عن خوض أي مناقشة مع الجانب الآخر، وذلك لأن جوهر معاداة الساميّة غير أخلاقي. وهذا بدوره يستدعي الرد بالمثل: ولذا يصبح مؤيدو إسرائيل فاشيين أغرار، وهذا أيضاً أساس شرير آخر.

في منطق النقاء والدَّناسة، بمجرد وصم الأصل الشرير للخصم (سواء أكان “فاشياً”/”عنصرياً” أم “معادياً للساميّة”)، فإنه يُكسب هذا الخصم صبغة غير شرعية؛ وما كان في السابق مجرد رأي (من قبيل “أنا أؤمن بحق اليهود في إقامة دولة يهودية” أو أن “المواطنة الإسرائيلية تتسم بالعنصرية”) يصبح عقيدة -أي أنها مجموعة من المعتقدات التي يتعين على أعضاء الجماعة الالتزام بها إذا أرادوا أن يظلوا أعضاء في هذه الجماعة؛ وهذه المعتقدات بدورها تحدد نقاء الجماعة. ومن شأن تدنيس هذا النقاء أن يؤدي إلى الإقصاء من الجماعة. ونظراً إلى أن المعارض يصبح معادياً للساميّة، فإنه يُحرم تلقائياً العضوية في الجماعة. ولذا يقتضي التهديد الذي تشكله لنقاء العقيدة طردها من الجماعة المذهبيّة الأم.

تُعد حالة الجدل اليهودي الجديد المُثار حول معاداة الساميّة خير مثال على الصعوبات المتزايدة التي يواجهها المفكرون في الساحة الثقافية. وفي أحيان كثيرة، يتعين على المثقفين أن يناضلوا في سبيل فهم التناقضات الأخلاقية التي تفرضها الحقائق المعقدة: ففي هذه الحالة، تنتهج دولة إسرائيل سياسة هيمنة غير مقبولة للسيطرة على الأراضي، في حين تشهد معاداة الساميّة تصاعداً في كل مكان. وفي مواجهة مثل هذا الواقع المتناقض، يتعين على المثقفين أن يفعلوا أفضل ما يجيدون فعله: ألا وهو الاصطفاف مع الموقف العالمي الشموليّ والنضال ضد ممارسات الهيمنة التي لا هوادة فيها على الفلسطينيين، وضد معاداة الساميّة؛ وبذل جهد جم في تمييز الفروق التي يريد السياسيون طمسها وتشويشها؛ والكف عن تحويل آراء الخصوم إلى شكل من أشكال الطعن في الدين؛ وأخيراً الحفاظ على قواعد النقاش المدني بدلاً من ممارسة الإقصاء والنبذ. وبهذه الطريقة وحدها يُمكننا أن نواجه التضليل اللغوي والأخلاقي لمفهوم “معاداة الساميّة”. وتتمثل مهمة المثقفين في تذكيرنا بأهمية اللغة في النضال في سبيل الأخلاق.

إذ يبدأ الكفاح من أجل العدالة، وضد معادة الساميّة والتمييز الجنساني والعنصرية، بالكفاح من أجل إيجاد الكلمات المناسبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى