من الترويكا الى تصارع الأحصنة
محمد شحادة
شهد لبنان في حقبة التسعينيات من القرن الماضي وهي الحقبة الاكثر استقرارًا نسبيًا في فترة ما بعد الحرب الاهلية، وهذا امر طبيعي باعتبار ان الحكام الذين تولوا السلطات في البلاد هم من كسبوا الصلاحيات في اتفاق الطائف، شهد نظامًا توافقيًا افتراضيًا عرف (بتروكيا).
الترويكا هي العربة الخفيفة التي تجرها ثلاثة احصنة، وقد استخدم مصطلح الترويكا الذي يعني في الروسية المجموعة الثلاثية على الخطة (عام 1960م) التي اقترحها الاتحاد السوفييتي السابق، وهي أن يتولى رئاسة الأمم المتحدة ثلاثة أشخاص في منصب السكرتير العام بدلاً من واحد.
اما في لبنان فقد تشكلت الترويكا بين الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة)، ولكن ليس وفق نص دستوري بل في نهج توافقي افتراضي فيما بينهم، ولكن بما ان الطائف منح الكثير من الصلاحيات الرئيسية لمجلس الوزراء كسلطة تنفيذية واعاد مكانة المجلس النيابي كسلطة تشريعية في صناعة القرار السياسي والاداري، وخفض من صلاحيات رئيس الجمهورية ومنحه حق امضاء القوانين والمراسيم الصادرة عن الحكومة بعد اقرارها في المجلس النيابي وبعد الصلاحيات الشكلية التي تحفظ مكانة الفخامة الرئاسية، اعتبرت القوى المسيحية الرافضة لاتفاق الطائف ان الترويكا جاءت كورقة ترضية بالشكل لمقام رئاسة الجمهورية ولكن في المضمون هي اشبه بعملية رشوة لشخص الرئيس، فبدل ان يتم الاتفاق الثلاثي على تطبيق الدستور خلصت الترويكا الى اخذ رضا وموافقة رئيس الجمهورية لابرام توقيعاته على كافة القرارات والصفقات والتعاقدات وتشكيل الحكومات والتعيينات الادارية دون المشاركة الفعلية في ذلك مقابل محاصصته بجزء من هذه المشاريع وجزء من التعيينات وفق وجهة نظر المعارضة المسيحية.
فهذه العربة كانت تسير بتوازن الاحصنة الثلاثة بغض النظر عن استقامة الطريق ووضوح الاهداف أشرعية ودستورية كانت ام غير ذلك، انما اهميتها بتوافقها على الرغم من الصرخات المنذرة بمهوار ستؤول اليه البلاد من قبل بعض اعضاء المجلس النيابي الذين لم يستطيعوا تشكيل ولو كتلة برلمانية مؤثرة في صناعة القرار البرلماني والتشريعي.
ولكن سرعان ما تلقت هذه الترويكا الصفعة تلو الصفعة لا سيما بعد العام 2000 اي بعد تحرير الجنوب ثم وفاة الرئيس السوري حافظ الاسد ومجيء نجله الرئيس بشار الاسد واختلفت الاولويات السياسية والوصائية في لبنان عما قبل، و بعد دخول امريكا الى العراق وافغانستان وقلب اولويات المنطقة برمتها تأثر لبنان حتى جاء الانفجار الكبير الذي اودى بحياة الرئيس رفيق الحريري. ومع خروج الوصاية السورية وعودة اللاعب المسيحي الذي حفظ في السجن والمنفى انقلب المشهد السياسي الذي رسا عليه لبنان عقب اتفاق الطائف رأساً على عقب، واصبحت الترويكا في خبر كان وأصبح اتفاق الطائف معرضاً هو بذاته للكثير من الشظايا بين الرئاسات لا سيما من قبل رئاسة الجمهورية ومع مجيء الجنرال ميشال عون للرئاسة بدا الاختلاف الصارخ على تفسير الدستور وتحليل جزئيات اتفاق الطائف تحت عناوين استعادة حقوق المسيحيين.
فالسؤال المطروح هنا عن اي حقوق يتم الحديث؟ هل عن حقوق المسيحيين التي منحهم اياها الطائف ام عن حقوق المسيحيين التي سلبها منهم الطائف؟
اذا كان الخيار الاول هو حقيقة الامر فالسؤال البديهي هنا من هو هذا الذي خالف الدستور في مسالة رئاسة الجمهورية؟ علماً ان مخالفة الدستور لم تتم في طوال العهود السابقة الا في صالح الرئاسة الاولى مثل التمديد للرئاسة او الاتيان بتعديل دستوري للتمهيد للرئيس القادم مسيحياً. واذا كان الخيار هو الثاني فالقول ان ترويكا قد اعطت رئاسة الجمهورية المشاركة العملية بكل صغيرة وكبيرة اكثر من صلاحياتها الدستورية، ونعيد ونكرر بغض النظر عن مدى صوابية القرارات، فحتى لو اعتبرت ترضية لكن حقيقتها استقرارية وتشاركية بحتة.
على الرغم من عدم وضوح اي الخيارين هو المطلوب الا ان مجيء رئيس مسيحي مدعوم بقوة شعبية وكتلة برلمانية وازنة جعلت الخيار الترويكي امراً بعيدا كل البعد عن مستقبل الواقع السياسي في لبنان، وبالتالي اعتبار التوافق بين الرؤساء الثلاثة امراً لم يعد مقبولاً عند رئيس جمهورية لم يقر باتفاق يوم ولادته فهو يفضل الانصات الى طموحات وتطلعات الشعبية المسيحية التي تقف خلفه. لذلك دخلت البلاد منذ 2016 في ازمة عقم حكومي متكررة سواء في التكليف او التاليف وحتى في ديمومة واستمرار حكومة واحدة، وهذا ما ادخل البلاد في عنق زجاجة الحكم فلا هي تستطيع العودة الى العهود السابقة بسبب تطور المقترحات وعناوين شعبوية، ولا هي قادرة على تحقيق تقدم في المنظور القريب بداعي احترام اتفاق الطائف وحرمة المساس به، فتصارعت الاحصنة التي تجر العربة وتشتتت اتجاهاتها واصبحت المطالب السياسية في جبل ومطالب المواطنين والوطن في جبل آخر