«استرخاء جديد» أم «حرب باردة جديدة» في النظام الدوليّ…؟
د. جمال زهران*-البناء
كان للقاء «بوتين ـ بايدن» على أرض أوروبية في جنيف، ردود فعل قوية، وأصداء واسعة، تستدعي المراقبة والفحص والتحليل واستقراء المستقبل، حيث التقى الرئيس الروسي بوتين الذي يحكم روسيا منذ سنوات طويلة، استطاع خلالها أن يستعيد مكانة روسيا القديمة (الاتحاد السوفياتيّ)، في النظام الدوليّ حتى أضحت منافساً قوياً للولايات المتحدة بتأكيد وجوده ونفوذه في الأزمة السورية ثم ازداد تأكيداً في الأزمة الأوكرانيّة، الأمر الذي لم يستطع الغرب (أميركا وحلفاؤها الأوربيون)، أن ينكر ذلك، مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، الذي خلف الرئيس المتغطرس ترامب، والذي أشاع «فوضى دوليّة» شديدة التعقيد، ولكنه كان المقرّب من بوتين في الوقت نفسه!
ولعلها الرحلة الأولى التي يقوم بها الرئيس الأميركي بايدن، خارج الولايات المتحدة بعد توليه الرئاسة في 20 يناير/ كانون الثاني 2021 الماضي، ومرور المئة يوم الأولى على بدء عمله كرئيس لأميركا، حيث بدأت جولته الأولى في أوروبا من بريطانيا وهي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة دائماً، وقد تأكد أنها «الغرفة المغلقة»، التي تسهم في إدارة الحكم في أميركا باعتبارها «سيدة البحار» السابقة، والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، من اتساع انتشارها في العالم واحتلالها لأغلب المناطق والدول، وخبرتها الاستعمارية الطويلة، ولديها القدرة على دعم أميركا في نشر نفوذها والحفاظ على ذلك، خاصة أنّ الولايات المتحدة تتسم في تاريخها السياسي بأنها لا تملك سوى سياسات الكاوبوي. وحاول ببدء زيارته لبريطانيا أن يصلح ما كان ترامب قد فعله بأوروبا خاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ليؤكد على ضرورة «رأب الصدع» الذي حدث في العلاقات الأميركية الأوروبية، لإعداد المسرح مرة أخرى، بصراع قد يطول مرة أخرى مع موسكو في ظل أوضاع متغيرة حالية ومستقبلية!
إذن، فإنّ اللقاء بين بوتين وبايدن، الذي عُقد منذ عدة أيام في جنيف، تمّ في بيئة دولية جديدة، وواقع جديد. فمن المتغيّرات في البيئة الدوليّة، تأكُّد التنافسية الدولية، والاستقطاب الدولي، الأمر الذي بدأ ينعكس على العالم ونظامه الدوليّ. فقد أصبح هذا النظام يتمحور حول هيكل أو بناء قوة، يشير إلى ثنائية القوة بين الشرق بقيادة روسيا والصين، وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومعها أوروبا. وقد انعكس هذا الهيكل وتأكد في إدارة الأزمات العالميّة والإقليميّة، ولعل التصويت في مجلس الأمن يؤكد ذلك، آخرها عدم تمكّن الولايات المتحدة من استصدار قرار يدين المقاومة الفلسطينية، ويتضمّن وقف إطلاق النار، ودعم «إسرائيل» وحمايتها! وهناك عشرات القرارات التي أجهضت ولم تصدر نتيجة استخدام الخمس الدائمين للفيتو! وهو تأكيد على طبيعة هذا النظام الدوليّ الذي استمرّ نحو عقدين من الزمان (1991 – 2010)، تحت سيطرة كاملة للولايات المتحدة، ثم بدأ التحوّل مع اندلاع الثورات العربية خاصة في تونس ومصر، والتحرّشات التي حدثت مع سورية، ثم ليبيا واليمن لتنفجر المنطقة، ويتحوّل الإقليم إلى أزمات دولية، أثر فيها، وتأثر بها، الهيكل الجديد للنظام الدولي.
ولقد كانت الأزمة السورية هي كبرى الأزمات الإقليميّة والدولية، وكيفية التعامل الدولي معها، كاشفة للتغيّرات التي حدثت في النظام الدولي، وتأكد معها، ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على ثنائية قطبية، بعد أن ظلّ طويلاً، كما سبقت الإشارة، تحت سيطرة أميركية (أحادية قطبية). في الوقت نفسه فإنّ الصراع الأميركيّ الصينيّ، قد تأكد، وازدادت درجته، مع ظهور وباء كورونا (Covid-19)، وتبادل الاتهامات بشأنه، بينما كان في الخلفية وجود صراع اقتصاديّ على المصالح في آسيا، بل وفي العالم كله الآن.
في هذا السياق، يأتي لقاء بوتين ـ بايدن، منتصف شهر يونيو/ حزيران 2021، ليؤكد من خلال التصريحات المتبادلة والمؤتمر الصحافي والبيانات الرسمية، أنّ هناك استحضاراً جديداً لمناخ «الاسترخاء العالمي» في أقاليم مختلفة خاصة الأقاليم محل التنازع بين القطبين (الروسي/ الأميركي)، وفي المقدّمة (الأزمة السورية، والأزمة الأفغانيّة، والأزمة الأوكرانية)، وربما يتحوّل مع الوقت إلى «حرب باردة» جديدة مع تزايد حدة الصراعات الإقليمية، والتنافسات الدوليّة. وقد يذكرنا ذلك بلقاءات بريجنيف/ نيكسون، في أعوام (1971 – 1973)، حيث كانت ذات البيئة الدولية والإقليمية على ذلك النحو، وكان مهندس هذه اللقاءات هنري كيسنجر، (الثعلب الأميركي) الذي لا يزال في خلفية المشهد بأفكاره، رغم تقدمه في السنّ وتجاوزه التسعين عاماً!
إنّ علينا أن نراقب ما يحدث، ونحاول أن نقرأ ما بين السطور، والمقارنة بما يحدث في واقع الأزمات الإقليمية وتطوّرها، لنفهم ميلاد النظام الدولي الجديد، والأيام المقبلة ستكشف ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ