لبنان ينزلق إلى تأزم ينسف وساطة بري مع عون الرئاسة تشكو من تعطيل دورها في تكوين السلطة ورئيس البرلمان يتهمها بالسعي للتخلص من الحريري
وليد شقير -أندبندنت
انزلق لبنان إلى مزيد من التأزم السياسي وباتت العقبات أمام المخارج لإنهاء الفراغ الحكومي متساوية مع التدهور السريع للأوضاع الحياتية في السباق بين تشكيل الحكومة وتراكم مظاهر التردي التي تداهم اللبنانيين يومياً في شكل مأساوي غير مسبوق، من النقص في الأدوية والمستلزمات الطبية التي اضطر ارتفاع أسعارها مستشفيات إلى إلغاء عقودها مع الهيئات الضامنة، وطوابير السيارات أمام محطات تعبئة الوقود، والنقص في الطحين، وشح التغذية بالتيار الكهربائي.
ويشهد يوم 17 يونيو (حزيران) إضراباً عاماً وتحركات احتجاجية في الشارع ضد الانحدار السريع في الأحوال المعيشية وللمطالبة بقيام حكومة إنقاذ.
وخضع تحميل مسؤولية الانهيار المريع في الخدمات لمزايدات بين نقابات التجار والمستوردين لهذه المواد الأساسية، والموزعين ومصرف لبنان المركزي، باعتبار أنها مدعومة منه على سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات للدولار الواحد) مقابل ارتفاع سعر صرف العملة الخضراء في السوق السوداء أكثر من 10 أضعاف في الأيام القليلة الماضية، إذ صار معدله الوسطي 15300 ليرة للدولار الواحد. ومبالغ الدعم التي بحوزة مصرف لبنان باتت شحيحة وسط ارتفاع الأصوات بين السياسيين والنقابات والاقتصاديين برفض المس بالاحتياطي الإلزامي لودائع المصارف لديه باعتبارها ما تبقى من أموال المودعين بعهدته (قرابة 16 مليار دولار) من أصل زهاء 120 مليار دولار خسرها القطاع المصرفي في السنوات الماضية.
المبادرة باتت تحتاج إلى مبادرة
في موازاة ذلك، باتت المبادرة التي أطلقها رئيس البرلمان نبيه بري قبل أسبوعين، مدعوماً من “حزب الله”، من أجل إخراج تأليف الحكومة الجديدة برئاسة سعد الحريري من عنق الزجاجة، بسعيه إلى نوع من الوساطة بين عون والرئيس المكلف، تحتاج إلى وساطة لرأب الصدع بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي. فالأفكار التي طرحها بري لم تلقَ تجاوباً من فريق الرئيس عون. ما أطلق حملات متبادلة بينهما. وبات السؤال عما سيكون موقف “حزب الله” الذي واجه الحرج بين حليفين متضادين بري الركن الثاني في الثنائي الشيعي، وعون الرئيس الذي وقف إلى جانبه وأمّن له التغطية الرئاسية والمسيحية في خياراته الإقليمية إلى جانب المشروع الإيراني.
في الوقت الذي انطلقت مبادرة بري من موافقة رئيس الجمهورية على صيغة حكومية من 24 وزيراً من دون ثلث معطل لأي فريق، مختلفة عن تلك التي قدمها الرئيس المكلف (من 18 وزيراً) في 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي إلى الرئيس عون، استمرت المماحكات حول توزيع الحقائب وتسمية وزراء مسيحيين، وغيرها من الشروط المفتعلة. وتاهت المفاوضات التي أوكل بري بها إلى مندوبين عنه وعن “حزب الله” بين التباحث مع الوريث السياسي لعون النائب جبران باسيل، وبين التداول مع عون نفسه، وبدا الفريق الرئاسي مغتاظاً من تمسك بري ببقاء الحريري في رئاسة الحكومة، بعد أن كان الأخير يتهيأ للاعتذار نتيجة انسداد الأفق في التأليف بعد مضي 8 أشهر على تكليفه. بل إن رموز “التيار الوطني الحر” أخرجوا انتقاداتهم لـ”حزب الله” إلى العلن، لأنه يفضل الانحياز إلى موقف بري المنحاز بدوره لترؤس الحريري الحكومة. فلا كيمياء بين الفريق الرئاسي وبين رئيس البرلمان منذ انتخاب عون رئيساً منذ خريف 2016، بل إن العلاقة بينهما حفلت بالمعارك السياسية سواء تحت قبة البرلمان أو حول طاولة مجلس الوزراء في الحكومتين اللتين تشكلتا منذ تبوء الأخير الرئاسة، فضلاً عن أن كتلة بري النيابية لم تنتخب عون استناداً إلى حجة بري الشهيرة التي أبلغ الجنرال بها: “لا يمكن أن أنتخب رئيسين للجمهورية أنت وجبران باسيل”. أما حجة “التيار الحر” ضد الحزب فهي أنه يفضل حليفه الشيعي على حليفه المسيحي في المعركة التي يخوضه ضد الفساد. وفي المقابل، فإن فريق بري لم يتوان عن اتهام باسل والوزراء الذين عينهم، بأنواع الفساد لا سيما في قطاع الكهرباء.
الخلاف على تسمية الحريري وسجال الصلاحيات
خلال 24 ساعة تدحرج الخلاف بين الوسيط بري والفريق الرئاسي في الأسبوعين الماضيين بعد أن استشعر رئيس البرلمان أن شروط باسيل لتسهيل تأليف الحكومة هدفها التخلص من الحريري في رئاسة الحكومة، على الرغم من تسليمه بأن أكثرية البرلمان سمته. وهو ما دفعه إلى التذكير بأن صلاحية تسمية الأخير لتأليف الحكومة تعود إلى البرلمان لا إلى رئيس الجمهورية. ما دفع الأخير إلى إصدار بيان في 15 يونيو نسف مساعي رئيس البرلمان. ومما جاء في البيان الرئاسي “تطالعنا تصريحات ومواقف من مرجعيات تتدخل في عملية التأليف، متجاهلة ما نصّ عليه الدستور من آلية لتشكيل الحكومة، والتي تختصر بضرورة الاتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف المعنيين حصراً بعملية التأليف”. وتحدث عون عن معطيات خلال الأيام الماضية، تجاوزت القواعد الدستورية والأصول، وأن المرجعيات والجهات التي تتطوع مشكورة للمساعدة في تأليف الحكومة، مدعوة إلى الاستناد إلى الدستور والتقيد بأحكامه وعدم التوسع في تفسيره لتكريس أعراف جديدة ووضع قواعد لا تأتلف معه، بل تتناغم مع رغبات هذه المرجعيات أو مع أهداف يسعى إلى تحقيقها بعض من يعمل على العرقلة وعدم التسهيل”. واتهم عون بري من دون أن يسميه بـ”كثير من الإساءات والتجاوزات والاستهداف المباشر للرئاسة وصلاحيات رئيس الجمهورية”، معتبراً “الزخم المصطنع الذي يفتعله البعض في مقاربة ملف تشكيل الحكومة، لا أفق له”. واستند إلى نص الدستور الذي يعطيه صلاحية تسمية رئيس الحكومة بعد استشارات ملزمة.
المفارقة أن تكتل “لبنان القوي” الذي يضم نواب “التيار الحر” وحلفاءه برئاسة باسيل، أصدر في الوقت نفسه بياناً يبدي “الإيجابية المطلقة مع المسعى الذي يقوم به الرئيس نبيه بري ومع أي مبادرة تؤدّي إلى التأليف مع وجوب أن تتسم بالحرص على الحقوق والدستور وتتسم بالايجابية والحيادية لكي تؤتي ثمارها”.
بري والدعم الخارجي للمبادرة “المستمرة”
توالت الردود والردود المضادة. بري تريث في الرد، بناء على تدخل من “حزب الله”، إلا أنه أصدر في اليوم التالي بياناً قاسي اللهجة أكد فيه أن “قرار تكليف رئيس حكومة خارج عن إرادة رئيس الجمهورية، بل هو ناشئ عن قرار النواب أي السلطة التشريعية، ومن يجري الاستشارات النيابية لتأليف الحكومة هو الرئيس المكلف، وبالتالي من حقي أن أحاول بناء على طلب دولة رئيس الحكومة المكلف أن أساعده في أي مبادرة قد يتوصل إليها، ولا سيما أن رئيس الجمهورية الذي تعود له صلاحية توقيع مرسوم تأليف الحكومة بالاتفاق مع رئيسها أبدى كل رغبة في ذلك وأرسل لي رسلاً عدة وحصل أكثر من اجتماع في القصر الجمهوري وخلافه لإنجاح ما سمي بمبادرة بري دون حضوري الشخصي”. وسرد بري بعض تفاصيل ما دار في لقاءات الوساطة التي كان يجريها موفده وموفدان من “حزب الله” مع باسيل قائلاً “كان القاضي راضياً، طالما ارتفع عدد الوزراء إلى 24 وطالما حُلّ موضوع الداخلية، إلى أن أصررتم على 8 وزراء + 2 يسميهم رئيس الجمهورية (الذي لا حق دستورياً له بوزير واحد، هو لا يشارك في التصويت) فكيف يكون له أصوات بطريقة غير مباشرة؟”.
أضاف بري “البلد ينهار والمؤسسات تتآكل والشعب يتلوى وجدار القسطنطينية ينهار مع رفض مبادرة وافق عليها الغرب والشرق وكل الأطراف اللبنانية إلا طرفكم الكريم، فأقدمتم على البيان البارحة صراحة تقولون لا نريد سعد الحريري رئيسا للحكومة. هذا ليس من حقكم، وقرار تكليفه ليس منكم، ومجلس النواب قال كلمته مدوية جواب رسالتكم إليه. المطلوب حل وليس ترحالاً والمبادرة مستمرة”.
وكرر بري مرات عدة في تسريبات وتصريحات الإشارة إلى دعم داخلي وخارجي لمبادرته، بالاستناد إلى حصوله على تأييد من خلية الأزمة الفرنسية التي كان شكلها الرئيس إيمانويل ماكرون لوساطته، وكذلك على تأييد مصري وروسي ومن سفراء دول عدة أخرى.
وهي الدول نفسها التي اتصلت بالحريري للتمني عليه الإحجام عن خيار الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة، والتنسيق مع بري لمحاولة إنهاء الفراغ الحكومي.
عون و”استعادة الدور”
لم تمر ساعات قليلة حتى ردت الرئاسة على رد بري مشيرة إلى “الأسلوب غير المألوف لديه في التخاطب السياسي”، مستغربة ردة فعله حيال “موقع رئيس الجمهورية في التركيبة الوطنية التي تكرّست في وثيقة الوفاق الوطني، وما يرمز إليه من وحدة الوطن ودوره في السهر على احترام الدستور”. وانتقد بيان عون حديث بري عن “عدم حق الرئيس بالحصول على وزير واحد كأنه أراد بذلك أن يؤكد أن الهدف الحقيقي للحملات التي يتعرض لها تعطيل دوره في تكوين السلطة التنفيذية ومراقبة عملها مع السلطة التشريعية، واقصاؤه بالفعل حيناً، وبالقول أحياناً، عن تحمل المسؤوليات التي ألقاها الدستور على عاتقه”. ونفى عون اتهام بري له بأنه لا يريد الحريري رئيساً للحكومة، مؤكداً أنه “تجاوب مع إرادة مجلس النواب وكلف الرئيس الحريري بتشكيل الحكومة… على الرغم من محاولة ابتكار أعراف دستورية جديدة”. ونفى أن يكون طالب بتسمية وزيرين إضافيين أو بالثلث المعطل، مشيراً إلى أنه تعاطى إيجاباً مع مبادرة بري بدليل أنه أرجأ الحوار الذي كان ينوي الدعوة إليه، فسحاً في المجال أمام دولته في النجاح بمسعاه، وطالب مراراً الرئيس المكلف بأن يقدم تشكيلة متوازنة تتمتع بالميثاقية وتحصّن الشراكة الوطنية وتؤمّن ثقة مجلس النواب”. وغمز عون من قناة رئيس البرلمان بقوله “لم تكن هناك حاجة لبيان الرئيس بري للإدراك بأن ثمة من لم يغفر بعد لاستعادة الحضور والدور بعد سنين التنكيل والاقصاء منذ العام 1990 حتى العام 2005”. ولمّح عون إلى أن الأزمة الحكومية “عقّدتها رغبات في تهميش دور رئيس الجمهورية والحد من صلاحياته ومسؤولياته”، وأن بيان بري “خير دليل على ذلك”. ورأى أن البيان الصادر عن بري “أسقط عن دولته صفة الوسيط الساعي إلى حلول، وجعله ويا للأسف، طرفاً”.
وعاجل بري بيان الرئاسة بآخر مقتضب جاء فيه “لنا الرغبة أن نصدق ما ذهبتم إليه إذا كنتم أنتم تصدقونه”، مذكراً عون بأنه “صاحب القول بعدم أحقية الرئيس ميشال سليمان بأي حقيبة وزارية أو وزارة”.
وبعد دقائق رد عون بأن كلامه عن “عدم أحقية الرئيس ميشال سليمان بأي حقيبة أو وزارة، لأن الأخير لم يكن لديه عند انتخابه، أي تمثيل نيابي ولم يحظ بدعم أكبر كتلة نيابية في مجلس النواب، كما هي حال الرئيس عون، ومع ذلك، أعطي الرئيس سليمان ثلاثة وزراء في كل حكومة”. وعاد المكتب الإعلامي لبري فسأل “طالما الأمر كذلك لماذا أعلن تكتل لبنان القوي أنه لن يشارك ولن يعطي الثقة؟”.
تمويل المواد الرئيسة وموقف مصرف لبنان
مع حجب اندلاع السجال كل الآمال على إمكان حصول اختراق في جدار الأزمة السياسية، طغت جهود تمويل الحاجات الأساسية التي يقض فقدانها مضجع اللبنانيين، فيما يتزايد الخلاف بشأن رفع الدعم من قبل مصرف لبنان عن استيرادها بالعملة الصعبة بالسعر الرسمي للدولار، ما يستنزف ما تبقى من أموال المودعين (الاحتياطي الإلزامي). الأمر الذي يرفضه العديد من القادة السياسيين ويعتبرونه إمعاناً في سرقة أموال اللبنانيين، لا سيما أن كمّاً من المواد المستوردة المدعومة هرب إلى سوريا، مقابل رفض قوى أخرى رفع الدعم الذي سيحول أسعار بعضها إلى أرقام فلكية قياساً إلى مداخيل الطبقات الوسطى والفقيرة. ويواكب هذه المعضلة تحضير المجتمع الدولي، سواء في مشاورات تقودها فرنسا، أو عبر المنظمات الدولية لتأمين تمويل يسمح باستمرار الخدمات الأساسية في البلد.
وإزاء تقاذف المسؤوليات بشأن التأخر في التمويل وتخزين المستوردين بضائع في المستودعات، دعا مصرف لبنان الحكومة إلى “إقرار خطة لترشيد الدعم، ما يؤدي إلى حماية العائلات الأكثر حاجة ويضع حداً للتهريب المتمادي على حساب اللبنانيين”، ويشدد على أنه لن يستعمل التوظيفات الإلزامية وأن الدفعات التي يقوم بها حالياً هي من ضمن الفائض عن التوظيفات الإلزامية.
وأكد أنه على صعيد القطاع الطبي، “أبلغت وزارة الصحة مصرف لبنان بالملفات ذات الأولوية بالنسبة إلى المستلزمات الطبية، وتم سداد المطلوب إلى المصارف، والمعاملات قائمة لسداد ما تبقى. أما على صعيد الأدوية، فما زال مصرف لبنان ينتظر الأولويات التي ستحددها وزارة الصحة لتبليغها للمصارف، علماً أن تعاطي مصرف لبنان يقضي ببيع الدولارات وفق السعر الرسمي إلى المصارف، ولا علاقة له مباشرة بالمستوردين”. وعلى صعيد البنزين، أعلن مصرف لبنان أنه “تم دفع ما يقتضي إلى المصارف لتلبية الاعتمادات والكميات الموجودة حالياً كافية. والمسألة موضوع متابعة بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان ولجنة الأشغال العامة في مجلس النواب لوضع خطة ترشيدية تؤمن الاستمرارية”.
ولفت إلى أن “الفائض الموجود حالياً مريح للبلد، مع العلم أن شركة ميدكو “MEDCO” قامت بما يقتضي وبتسوية أوضاعها وتغذية السوق من دون انقطاع. ونأمل من الشركات أن تقوم بواجباتها كما يقتضي الأمر، علماً أن الكميات المطلوبة متوافرة. وكان مصرف لبنان قد أصدر موافقة مسبقة بعد أن تسلم طلب موافقة وزارة الاقتصاد باستيراد القمح إلى لبنان”.