تركيا هي تركيا.. مع وبدون اردوغان.. ظلام من عين الظلام
بقلم: نارام سرجون
من أشد الاشياء غرابة ان الانسان انشغل بقياس سرعة الضوء .. ولم يسأل ان كان للظلام سرعة .. اذ كيف لايكون للظلام سرعة؟ ولذلك لاتستغربوا ابدا ان ان قلت بأن الظلام الدامس قد يزرعه الضوء الباهر .. فكلما كثرت الاضواء ساد الظلام في العالم .. فمن كثرة الاعلام وأضوائه الباهرة لم يعد الناس يرون الحقيقة ولا يقدرون على ان يفكروا بحرية .. فعندما تغرق العيون في الضوء الشديد يسبح العقل في الظلام ..
ولذلك لم ير الناس بفعل أضواء اميريكا مثلا أنه لافرق بين دكتاتورية الشيوعية والرفاق الاشتراكيين وبين ديكتاتورية المال والاعلام لسادة الديمقراطية الغربية .. فالطرفان مارسا الديكتاتورية بكل مافيها من استيلاء على الآخر .. ولم ير الناس ان لافرق بين حلف وارسو وبين حلف الناتو من حيث التركيب فهما معسكران متطابقان في البنية .. فروسيا هي التي كانت تهيمن على الحلف وتحركه كما اميريكا تهيمن على حلف الناتو وتحركه وتصادر قرار حلفائها وتمارس الوصاية عليهم .. وكما كان لروسيا جيوش تنتشر في أوروبا الشرقية فقد كان لاميريكا جيوش تنتشر في أوروبا الغربية وتطبق على صدر القرار السياسي الاوربي بالعسكر والبنوك .. ولكن روسيا وصفت بأنها محتلة لأوروبا الشرقية بينما وصفت اميريكا بأنها حليف تحمي أوروبا الغربية .. رغم ان اميركا كانت ايضا تحتل أوروبا الغربية .. والفارق اليوم ان روسيا خرجت من أوروبا الشرقية .. فيما بقيت اميريكا تحتل أوروبا الغربية ..
ولذلك فان عين الفلسفة ترى انه مهما قيل عن الاستقلالية السياسية في الدول التي تدور في فلك اميريكا فانها خرافة غليظة ونكتة سمجة .. حتى في الدول الاوروبية التي تعتد بأنها ديمقراطية ومستقلة .. فالاستقلال ربما يكون في الشؤون الداخلية ولكن في الشؤون الخارجية فان جميع الدول التابعة لاميريكا في منظومة حلف الاطلسي لاتملك هامشا كبيرا في تحركاتها السياسية المتعقلة بالسياسة الخارجية .. وتكاد تكون وزراة الخارجية الامريكية هي وزارة خارجية الجميع .. وباقي الوزارات الخارجية هي سفارات امريكية تردد ماتقوله الوزارة الأم والسيدة .. وهذا هو حال السياسات الخارجية الاوربية التي فقدت استقلالها في السياسة الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية التي كان من نتيجتها ان اميركيا اجتاحت أوروبا بحجة تحريرها من النازية .. ولكنها لم تخرج منها منذ ذلك الوقت بحجة حمايتها من الشيوعية .. الا انه وبعد موت الشيوعية لم يكن هناك مبرر لبقاء اميريكا في أوروبا .. ومع هذا فان اميريكا لم تخرج منها وبقيت تحافظ على سلطة الناتو وعلى القرار الاوروبي رغم ان الناتو فقد ضرورته بسقوط الخطر الاحمر والكتلة الشيوعية .. وهذا مايفسر لنا لماذا عجزت أوروبا عن اتخاذ اي قرار سياسي لاتوافق عليه اميريكا منذ عقود .. فمن غير المعقول انه جرت مئات الجولات الانتخابية في البلدان الاوربية ولكن كل الاحزاب التي تداولت السلطة في أوروبا لها نفس الموقف من اميريكا وروسيا والعالم وتتطابق معها كليا في كل السياسات الخارجية منذ 70 سنة .. ولم يقدر سياسي اوروبي واحد ان يشذ عن هذه القاعدة .. وكان الفرنسي ديغول يدرك ان اميريكا ليست جمعية خيرية ولذلك فانه قام بتشكيل اتحاد اوروبي للتقليل من النفوذ الاميريكي ولكن فجأة أطاحت به مظاهرات طلاب مجهولين في فرنسا .. المظاهرات التي تبخرت بمجرد ان رحل ديغول .. وكأن وظيفة المظاهرات كانت ان تبعده من طريق اميريكا وتلقن غيره درسا في عدم الاستقلال عن اميريكا .. وكانت محاولات الفرنسي شيراك محدودة ولكن في النهاية انتصر الجناح الامريكي في فرنسا الذي أعاد شيراك وفرنسا المتمردة الى الحظيرة الامريكية وبيت الطاعة الامريكية ..وعندما رفضت المانيا غزو العراق .. أسكتت .. ثم ارغمت على الانضمام الى وجهة نظر اميريكا بعد سقوط بغداد .. وتم تغيير الطاقم السياسي الالماني منذ تلك الحرب ..
ولذلك أنا شخصيا لاأكترث كثيرا ولاأتفاءل بالمواقف الاوروبية .. ولا أنتظر منها ان تكون شجاعة .. وأستطيع أن اتفق جدا واتفهم مقولة الراحل وليد المعلم “سنعتبر أوروبا ليست على الخارطة” لأن أوروبا في الحقيقة هي ظل اميريكا.. وعندما كان السادات يقول ان 99% من اوراق الحل بيد اميريكا فانه كان ساذجاً جداً لأنه رأى هيمنة اميريكا على أوروبا وقرر انها في الشرق كذلك 99% .. فقرر ان يلتحق بأوروبا ظناً منه انه سيعامل كالاوربيين اقتصاديا وسيصبح ثرياً ووكيلاً لاميريكا .. فسلم أميريكا 99% من القرار السياسي المصري وأدخلها في قلب البلاد .. فلم يعتبروه اوروبيا وظل هو بنظرهم الفلاح المصري الذي وظيفته ناطور الترعة “السويس” التي لاتزال ينظر اليها على انها قناة انكليزية المزاج .. والاميريكيون لايخرجون من سياسة اي بلد دخلوا فيه الا بالحرب كما فعلوا في اوروبا .. فهم في مصر منذ أن ادخلهم السادات لم يعد بالامكان اخراجهم منها او من السياسة المصرية الخارجية التي تتحرك مرغمة وفق اتجاهات امريكية .. فمصر تتزعم تيار “الاعتدال العربي” وفق توجيهات امريكية .. وهي التي تزعمت الجبهة العربية ضد العراق وكانت عرابة كل اتفاقات السلام مع الاسرائيليين برغبة والحاح اميريكيين .. وهي مع الاخوان المسلمين وبغير الاخوان المسلمين .. لها نفس الاتجاه .. كما تراه اميريكا .. بعيدا عن فلسطين وعن القومية والعروبة دوما وقريبا من الخليج المحتل عموما ..
ولكن أوروبا الخاضعة للهيمنة تمارس نفس الدور على دول العالم الثالث .. فهي بدورها تشرف على السياسات الخارجية لكل الدول التابعة لها .. فتجد ان فرنسا هي التي تتحكم بالقرار الافريقي وبالقرار اللبناني .. وبريطانيا بقرار الخليج العربي والهندي والباكستاني .. وكل منظومة الكومنويلث البريطانية .. حيث هامش الحركة السياسية الداخلية متروك الى حد ما ولكن في السياسة الخارجية لايسمح لاي دولة ان تلعب الا الدور المقرر لها في وزارات الخارجية الاوربية .. فعلى طول الصراع العربي الاسرائيلي لم تقدر اي دولة خليجية الا ان تتحرك لمصلحة اسرائيل سرا وعلنا .. فهي كما اوروبا حاربت ناصر والخميني والتجربة البعثية العراقية والشيوعية .. واليوم تحارب سوريا ومحور المقاومة .. وبالتالي فانها بشكل غير مباشر كانت تنفذ سياسات اميريكا .. وكان المشهد السياسي يشبه السمك الصغير الذي تاكله السمكة الاوروبية الكبيرة.. والسمكة الكبيرة تأكلها السمكة الامريكية الأكبر .. اي ان كل شيء يصب في بطن اميريكا في السياسات الدولية .. وليس هناك اي مجال للتمرد ..
تركيا الدمية الامريكية .. الى الامام سر:
تركيا لن تكون استثناء هنا .. ومنذ ان وضعت اميريكا قواعدها فيها ونظمتها في صفوف الأطلسي وهي تخضع كليا لها في سياساتها الخارجية .. والاميريكيون لايمزحون في هذه الحالات .. وهم لايقبلون الا ان يكون وجودهم قويا ومتجذرا في المؤسسات الحاكمة .. ولذلك ليس من قبيل الصدفة ان حزب العدالة والتنمية قد تم توليده بموافقة امريكية ومساندة من الجنرالات الاتراك الأطلسيين مهما قيل عن انتخابات ديمقراطية .. وذلك لدور صممته اميريكا اضطلعت به تركيا .. ولايمكن فصل زيارة اردوغان لاسرائيل عن تلك الصفقة بينه وبين الامريكان .. وتركت له مطلق الحرية في التسلح بالشعارات الاسلامية المناهضة لاميريكا واسرائيل لأنها عدة الاحتيال والنصب .. ويخطئ من يظن ان اردوغان فعل مافعل للضحك على عقول الامريكان للوصول الى السلطة كي ينقلب عليهم .. لان من يفكر بهذا التفسير يكون على نياته .. فليس عقل الامريكان من يؤكل به حلاوة .. لأنهم أعطوه الحكم ولكنهم يحتفظون بمفتايح الحكم معهم ..
اما ان اردوغان يتعرض لمؤامرات امريكية فهذا شيء سخيف للترويج له لجعله بوزن عبد الناصر والخميني وصدام حسين وحافظ الاسد .. فاميركا لم تحاصره ولم تنتقد قراراته عندما ألغى نتائج الانتخابات التركية التي كانت فرصة لها للدعوة الى التدخل بالشأن الداخلي التركي وارسال مراقبين دوليين .. وعندما زج زعماء الاحزاب السياسية والصحفيين في السجون لم تحرك ساكنا لانها موافقة على مايفعل وقد تكون هي مصدر النصيحة .. وبعد محاولة الانقلاب فانه تصرف بشراسة ضد خصومه ولم تحاول اميريكا ايقافه بل سهلت له سحق الانقلابيين .. لأنه كان يؤدي دورا أميريكيا عظيما في الشرق فهو يمنع محور المقاومة من الانصراف ضد اسرائيل .. وهو يجند كل المسلمين لحروب اميريكا .. فالاخوان المسلمون صاروا اصدقاء اسرائيل واميريكا .. وهو يتمدد بالاسلاميين ويحركهم من الصين الى روسيا .. وهو يشيع اجواء مذهبية قبيحة بدعمه المقاتلين في داعش والقاعدة .. وهؤلاء ليس لديهم هدف سوى الحرب الدينية .. بدليل ان الجولاني بعد ان كشف عن وجهه قال في اجتماعات نظمها له الاتراك مع البريطانيين والامريكان انهم ليسوا اعداءه بل اعداؤه السوريون والايرانيون ..فلماذا تصرف اميريكا اردوغان من هذه الوظيفة؟؟ .. رغم ان هناك نخبا تركية علمانية واسلامية وعسكرية كارهة له قادرة على ازاحته ..
ومن هنا فليس من قبيل الصدفة ان اميريكا جمعت كل أتباعها الذين تصارعوا في الشرق “تركيا والسعودية ومصر والامارات وقطر” وقررت ان ترغمهم على المصالحة القاسية التي كانت تبدو مستحيلة .. فلم يتردد اردوغان في الاستجابة وشطب كل شعاراته عن “السيسي ورابعة” في خمس دقائق والقى بجثة الخاشقجي – التي حملها على ظهره سنوات – في مياه الدردنيل كما فعل اسلافه القتلة مع الامير فخر الدين المعني الثاني وولديه ..
وصار اردوغان مغرما بمصر والسعودية .. ولكنه لايُسمح له ان يتحرك نحو سوريا بقرار اميريكي رغم ان أوجاع تركيا سببها مغامرتها في سوريا والعراق .. وكذلك أصيبت قطر بعشق مصر والسيسي ونسيت حرب البسوس مع السعودية .. ولكنها ممنوعة من الاقتراب من سوريا .. وهذا يدل على ان قرار تركيا ليس بيد اردوعان كما هو قرار قطر .. وهذا مايعرفه الروس عن القرار التركي .. ويتصرفون بحذر لأن تركيا هي مخفر اميريكا المتقدم .. وحكاية صواريخ اس 400 الروسية سنعرف حقيقتها ان عاجلا او آجلا .. ومن يزرع الفخاخ لمن ..
ربما كان البقاء الطويل لاردوغان في الحكم ونجاته من الاحتراق عدة مرات كما حدث عند خسارته الانتخابات ثم الانقلاب العسكري سببا في تشاؤم البعض من أن الرجل باق لأنه قوي في تركيا .. وانه سيستمر .. ولكن دور تركيا لن يتغير بعد اليوم مع اردوغان وبدونه .. فتركيا دخلت في مشروع امريكي وستبقى فيه مهما كانت تركيبة الحكم في تركيا .. فاميريكا القوية والمهيمنة في تركيا وجدت ان اطلاق الاسلاميين سيفيدها في تخريب الشرق لأن الشرق سيقبل بسهولة اجتياح الاسلاميين ولم يقبل بالاجتياح القومي التركي العنصري .. وهذه نظرة عبقرية لأنه حتى هذه اللحظة لايريد الموالون لتركيا الاسلامية ان يصدقوا انه لافرق بين اسلاميي تركيا وقومييها العنصريين الاستعماريين .. ويصرون على ان يروا فيها وجه الخلافة المقدس ..
الاميريكيون لايغيرون الالعاب مهما غيروا اللعبة .. والدمية المسماة الجمهورية التركية تحتاج الى تعديل في المهمة والوظيفة .. ولذلك لن يهم ان بقي اردوغان في الحكم ام لم يبق .. فرقص تركيا سيبقى على ايقاع موسيقا الجاز .. سواء لبس الراقصون الطرابيش مثل الدروايش او بناطيل الجينز ..
ويمكن ان نرى بدايات اللعبة وتغييرات الدور التركي من خلال تسليط رجل متنفذ تركي مثل سيدات بيكير كان الصندوق الاسود الذي يفشي أسرار اردوغان على الملأ لايذائه وايذاء منظومته .. ووجوده في الامارات “الخاضعة بشكل مطلق للنفوذ الانكلو ساكسوني” ليس لأن هناك ثأرا سعوديا من تركيا حيث ترد السعودية على فضيحة الخاشقجي من الامارات .. فالامارات منطقة نفوذ بريطاني .. وبريطانيا منطقة نفوذ امريكي .. ولذلك يستحيل ان تسمح الامارات بوجود رجل على اراضيها دون موافقة امريكية وبريطانية .. اي ان الحركة المرسومة في الامارات هي مداعبة امريكية بريطانية لتركيا لأن المسرح التركي يحتاج بعض التطوير في المهمة ان لجهة الدور والمغامرة او لأسباب أخرى .. والهبوط السريع لليرة التركية ليس بريئا .. والتدهور الاقتصادي صار يعني ان لتركيا دورا جديدا تكون فيه أكثر خضوعا واستجابة لاتفاقات لاتكون تركيا طرفا فيها ..
لاتنظروا في عين البرق وتعتقدوا انكم سترون أكثر .. فالظلام الذي في عين البرق اكثر من الضوء والبريق الذي يخدع الناس .. عندما تعرفون الحقائق ستدركون كيف تخرجون الضوء من عين الظلام .. وكيف ان قلب الشمس قد يكون مظلما .. ولاشيء يعطيك النور بلا حساب وبلا توقف مثل عقلك وقلبك .. نورٌ على نور ..
المصدر: نارام سرجون