هل استسلم «ثوار» 17 تشرين؟
لم يكن هناك أسوأ من مشهد «التشريع» في مجلس النواب قبل يومين: تمَّ نهبُ 200 مليون دولار من أموال المودعين، والتنفيذ فوراً. وللتغطية، جرى خِداعُ الناس بقانون «مسلوق» لاستعادة «الأموال المنهوبة»، ومدروس لئلا يُنفَّذ أبداً.
يوحى المشهد بأنّ منظومة السلطة وصلت في ممارسة الخداع إلى درجة متقدمة جداً. فهي لم تعد تكلِّف نفسها حتى عناء التبرير عندما تمارس عمليات النهب. وحتى مطالعة النائب جورج عدوان وسواه، التي أشارت إلى مخالفة الدستور والقوانين في اقتطاع السلفة، لم تستأهل الردَّ أو التعليق.
بعد «ثورة» أو «انتفاضة» 17 تشرين الأول 2019، واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، اعتقد كثيرون أنّ زمن ممارسة النهب بهذه الوقاحة قد انتهى، وأنّ المنظومة السياسية باتت تتحسّب لـ»الثوار» الذين كسروا «الرَهْبَة» التي كانت تحوط نفسها بها، وأنّ هناك سقفاً معيناً لم تعد هذه المنظومة قادرة على تجاوزه في ممارساتها.
عند تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب، تلاشت «الثورة» أو «الانتفاضة» تدريجاً. وأركانها أمعنوا في تبرير ذلك: بعضهم رضخ لمقولة الرهان على مهلة الـ 100 يوم لإثبات حسن النيات، وبعضهم راهن على مهلة أطوَل، وآخرون وَجدوا في «الكورونا» عائقاً.
ولكن، في الواقع، هذه ليست الأسباب الحقيقية لخروج «الثوار» من الشارع. فعلامات الترهُّل المبكر بدت على «ثورتهم» في الأسابيع الأولى. وفي قلب «الدينامية الثورية» الاستثنائية التي كلَّفت شهداء، كانت تتنامى عوامل أخرى توحي بالإعاقة.
بالتأكيد، هناك العجز عن صياغة قيادة جماعية، وبرنامج مشترك. وظهر التنافر أحياناً وسباق المصالح والهرولة إلى السلطة. كما برز الخلاف الفكري- السياسي- العقائدي: هل على «الثورة» أن تكون مع النظام أو ضدّه، وهل تكون مع الشرق أو الغرب، وما موقفها في جدلية 8-14 و»حزب الله» وسلاحه؟
هرب «الثوار» من الأجوبة المحرجة. اكتفوا بالشعارات. البعض يقول إنّهم أرجأوا الإجابات إلى مواعيد لاحقة. ولكن، في الواقع، كانت هذه «اللفلفة» مدمِّرة لـ»الثورة». وتمكنت منظومة السلطة من زرع «أحصنة طروادة» داخل الحراك، وعمدت إلى إحباطه من الداخل، ونجحت لأنّها تمتلك كل أدوات القوة والنفوذ.
وعندما انسحب «الثوار» أو «المنتفضون» من الشارع، واطمأنت المنظومة إلى سيطرتها على الأرض، بدأت تتخلّى عن خطتها البديلة، وتعود إلى الستاتيكو الأول. ماذا يعني ذلك؟
عندما استقال الحريري تحت الضغط الغربي والشعبي، لم يكن الفريق الممسك بالسلطة مرتاحاً إلى الخطوة وخاف من تداعياتها. وارتأى أن يحني الرأس لمرور العاصفة باللجوء إلى «التمويه»، أي إلى حكومةٍ توحي جزئياً بأنّها من التكنوقراط والمستقلين، ولكنها في العمق أداة له.
تمّ تكليف حكومة دياب بدور إضاعة الوقت وتشتيت الضغوط والمخادعة. وقد نجحت في ذلك، فيما كانت الانتفاضة مُربَكة وتُمزِّقها الاتجاهات والتوجُّهات.
وفي ظلّ هذه الحكومة، جرى التمادي في معاكسة خيارات الإصلاح المطلوبة دولياً، واستمرّ النهب في مرافق الدولة واستنزاف الودائع المصرفية وتهريبها، وتمّ وقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وبقيت تفوح روائح الصفقات في التلزيمات والمشاريع والمساعدات الدولية، حتى الإنسانية. وحصل كل ذلك، فيما «الانتفاضة» لا تُحرِّك ساكناً.
كان زلزال المرفأ اختباراً هائلاً كشف فساد المنظومة أمام العالم. وتوقّع كثيرون أن تؤدي صدمة 4 آب إلى بثّ الحياة في الانتفاضة. وهذا حدث، ولكن جزئياً. إلّا أنّ الأمر بدا أشبه بحقنة أدرينالين، سرعان ما زال مفعولها.
هذا الاختبار طمأن المنظومة ودفعها إلى التجرّؤ أكثر، وتحديداً العودة إلى ستاتيكو ما قبل 17 تشرين الأول 2019. يعني ذلك حرفياً: حكومة سياسية برئاسة الحريري. ولذلك، لا قيمة للجدل الذي يتمّ إغراق الأوساط السياسية والإعلامية به في مسألة التأليف، والذي يوحي بأنّ الأزمة مجرد حسابات تقنية على المواقع والثلث المعطّل. فهذا الجدل هو جزء من الخديعة التي تمارسها منظومة السلطة.
خلال الأشهر الأخيرة، قامت المنظومة باستدراج «الثورة» أو «الانتفاضة» إلى عشرات التجارب، واختبرت ردود فعلها، واطمأنت إلى أنّها تقريباً ميتة. ومن النماذج، رفضُ التدقيق في المصرف المركزي وسواه، وإهمالُ الموازنة العامة، والمماطلةُ في الملفات القضائية الساخنة. فأين «الثوار» من هذه الملفات؟ هل استسلموا فعلاً؟
وقبل يومين، عندما خرجت جلسة «التشريع» بالفضيحة الأخيرة، اقتطاع 200 مليون دولار من الاحتياط الإلزامي الخاص بالمودعين، مقابل أكذوبة اسمها «استرداد الأموال المنهوبة»، لماذا لم يتحرَّك «ثائر» أو «منتفض» واحد؟
اللافت أنّ صورة الشارع، هي أيضاً، عادت إلى ما كانت عليه قبل 17 تشرين الأول: مجموعاتٌ من بضع عشرات «المعترضين»، هنا وهناك، في شكل مشرذَم، يعبّرون عن «استيائهم» من أمرٍ ما، ويطرحون شكواهم، فلا يسمعهم أحد، ولا يكاد الإعلام يعرف بهم!
واضح أنّ «الثوار» استسلموا. بعضُهم أصابه التعب والإحباط، وبعضُهم ينتظر نضوج الظروف للانطلاق مجدداً، وبعضُهم مُربَك ولا يعرف من أين يبدأ.
وحتى إشعار آخر، وفيما العجز هو القاسم المشترك بين «الثوار»، تتفاءل المنظومة بأنّها ستنتصر، وبأنّ خصومها سيرضخون. ويعني ذلك أنّ منطق القوة سيسود حيث يجب أن تسود قوة المنطق.