إهانتهم لم تعُدْ تكفي
تتنوّع العلاقات الطبيعية للبشر بين العتاب والزعل، والإمتنان والرِضى، وبين الخصومة والعداوة، والصداقة والشراكة، وما بينهُما، وتنعكس الأطباع الإنسانية هذه على الشأن العام والعمل السياسي، حيث تُضاف عليها أنماط أُخرى أكثر حدّية وجدّية، كنتيجة طبيعية للقرارات المصيرية التي تقع على عاتق المسؤولين في هذه المجالات، وهذا هو بالضبط ما يُشكّل السبب الأساسي الذي يُحدّد العلاقة الصالحة التي يجب أن تَسود بين القادة والشعب، والمبنيّة على الصدق في الحوارات والمُبادلة في الآراء والحضور الحقيقي والحكمة المسؤولة، أمّا عكس ذلك فهو التواصل السيّئ وضعف العلاقات وتردّيها، ممّا يؤدّي الى كوارث وطنية وصِدامات عبثية. ومن هذا المنطلق المؤسّساتي، يستغلّ القائد الحكيم الاحتجاجات والاعتراضات التي تنشب عادةً في أي بلدٍ كان، مهما استقرّت أُموره، لتحويلها فرصةً للاستماع للمعارضين، ولإجراء التفاهمات ولرسم سياسات تعاون بهدف وضع أُسس وطنية جديدة لإدارة البلاد، بعيداً من الازمات. فالقائد الكبير، حسب هنري كيسنجر، هو الذي يُجنّب أُمّته الكوارث قبل أن يُحقّق لها الانتصارات. أمّا في الظروف المعقّدة التي لا تسويات وطنية لها فيتمّ التفاهم على الذهاب إلى الاستحقاقات الديمقراطية التي تفصِل بين المتنازعين، من أجل إعادة الثقة للأكثرية السابقة أو تغييرها بأكثرية جديدة. إنّ رفض المسارات الديمقراطية يعني دفع البلاد للخراب والمواجهات، والتخلّي عن الثوابت الدستورية التي تتحكّم عادةً بلُغة التواصل بين أفرقاء الوطن الواحد. ولِسوء حظّ اللبنانيين فالمسار الذي إختارته السلطة الحاكمة في لبنان هو المسار المُعاكس تماماً للمفهوم المؤسّساتي، مُعتمدةً سياسات العداء للشعب، ومخاطرةً بكلّ ما تميّز به لبنان الفُسيفسائي على مدى عقود، حين اعتُبر ملجأً للأحرار في المنطقة، فأفرقاء السلطة ينطبق عليهم قولٌ لوليم هازلت “هؤلاء الذين يعيشون حروباً مع الآخرين، ليسوا على سلام مع أنفسهم”.
إنّ الاهانات المستمرّة والمحقّة التي يوجّهها الشعب اللبناني بحقّ افرقاء السلطة الحاكمة، الذين أهانوا البلاد والعباد والهوية اللبنانية، لم يعد من طائل لها أو نتيجة متوقّعة، فالشعب اللبناني يستغرب قدرة السلطة على الصمود بوجه هذه الاتهامات المُثبتة، بالرغم من فقدانها لكلّ المقوّمات، وسقوطِها في جميع الامتحانات، وبالرغم من الدمار الوطني والاهلي والاقتصادي الشامل الذي سبّبته لِلُبنان وحوّلته من بلد الأرز، وطن التطوّر والازدهار والعلم والجامعات والفنون والمفكّرين والسياحات المتنوّعة، الى موقعةٍ من الفقر والعوز والمآسي والتخلّف. فيتساءل الشعب عن السرّ الكامن خلف عدم انفراط عقد السلطة واضطرارها للمغادرة، فقد فاتَتْه الحقيقة بأنّ السلطة تضع كل ثقلها على ربح الوقت لدفعه للتخلّي عن معارضته الكلامية وتحوّله للمواجهات العنفية ضدّها، لتفتح بوجهه المجال لأجهزتها الشرّيرة للاستشراس ولقمعه بشتّى الطرق، إخفاءً وتصفيةً واعتقالاً، وربما قتلاً بالبراميل او التفجيرات، كما برع مِحورها بأكمله ضدّ شعوبه.
الاتهامات الكلامية لنوعية كهذه من السلطويين لن تُؤتي تغييراً إنقاذياً، وإعتماد المواجهة العنفية معها تُعطيها الفرصة لفتح فوهات مسدّساتها وبنادقها وقضائها للتصرّف بهمجية، امّا المواجهة الاكثر فعالية ضدّها فهي بالاستحقاقات الديمقراطية التي وإن استطاعت منع تقريبها، ولكن مُحاولاتها الخبيثة لمنع حصولها في اوقاتها لن تُفلح، فقانونية بقاء افرقائها في السلطة ستسقط وستُسدّ بوجههم كل الابواب الخارجية والاقليمية، ولن يبقى لهم اي فرصة لانقاذ انفسهم.
واقع اهانة السلطة اصبح اقلّ الممكن الذي يمارسه الشعب يومياً والهيئات الدولية بكثرة، وقد تكون اضحت العقاب المُفضّل لدى افرقائها عن اي محاسبة اخرى، فيستسهلونه تجنّباً للقصاصات الحقيقية، وأملاً بالنجاة بأنفسهم، ولكن سقط من حساباتهم أنّ تدجين الشعب لن ينفعهم، لانه سيفاجئهم بالدفاع عن كرامته وحرّيته، كما فاجأ امثالهم بالسابق، علماً أنّ هناك افرقاء نضاليين ايضاً كـ”القوات اللبنانية” التي اثبتت بممانعتها للسلطة بأنها ستستمرّ وتبقى بقيادة الاصلاح للإعوجاج، لانها تُدرك ان العلاجات لا تكون بالمُسكّنات ولا بتضميد الجروحات، بل باستئصال اسباب المرض، فكما قال جون رولز “إمّا الاستواء، وإمّا الاعوجاج، والعدل هو الحكم بالاستواء أي بالإنصاف، ومنه المعادلة اي المساواة، وإذا لم يتمّ ذلك، فالمعنى الآخر يُصبح العكس، أي الاعوجاج”.