دروس حرب غزة
اللواء في الاحتياط غرشون هاكوهين –
باحث في معهد السادات – بيغن للأبحاث الاستراتيجية، خدم 42 عاماً في الجيش وشارك في المعارك ضد مصر وسورية
شهدت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة لأول مرة تعبيراً عن استراتيجية قاسم سليماني: تطويقها بحلقة من النار من كل الساحات، وأيضاً في الساحة الداخلية. هذه المرة ساحة غزة، التي تندلع فيها حرب من حين إلى آخر، اتخذت إطاراً جديداً. وقد وضعت في المقدمة القدس والمسجد الأقصى، وهو ما أشعل أعمال الشغب وسط العرب في إسرائيل.
في خطابه بعد الحرب قال زعيم “حماس” إسماعيل هنية: “المعركة فتحت باباً نحو آفاق جديدة.” من حظ إسرائيل أن هذه الآفاق الجديدة وما تنطوي عليه من مخاطر لم تتحقق بعد. الآن مع وقف إطلاق النار يتعين على إسرائيل تقدير التداعيات المستقبلية.
ما الذي كان مفاجئاً في هذه الحرب؟ من ناحية الجهوزية العملانية كان الجيش مستعداً للحرب. مع ذلك تعترف عناصر استخباراتية في الجيش بأنهم فوجئوا إلى حد ما بمبادرة “حماس” إلى هذه الجولة. والمفاجأة تكمن في الإطار الجيوسياسي والهدف الجديدين اللذين وضعتهما “حماس” للمعركة من خلال تركيزها على القدس.
في معارك القرن الماضي، بينها حرب الأيام الستة [حرب حزيران /يونيو 1967]، وحرب يوم الغفران [تشرين الأول/أكتوبر 1973]، فرض البدء بالحرب استعدادات مسبقة للعدو ترافقت مع إشارت تحذيرية. وعندما قرر الرئيس عبد الناصر في أيار/مايو 1967 إدخال قواته إلى سيناء، شكلت عملية نشر القوات في منطقة سيناء فترة تحذير لإسرائيل. كذلك المؤشرات الدالة على عمليات الإعداد للحرب كانت واضحة أيضاً في الفترة التي سبقت حرب يوم الغفران، التي اختارت شعبة الاستخبارات العسكرية تجاهلها مع الأسف. منذ ذلك الحين اعتمدت التقديرات الاستخباراتية على المراقبة الدقيقة والمنتظمة لعلامات الإنذار. هنا يكمن التغيير الجوهري الذي أحدثه احتمال المفاجأة لدى “حماس”.
بعكس التنظيمات العسكرية التقليدية، تعمل “حماس” وحزب الله انطلاقاً من منطق يقلص فترة الاستعداد للعملية. معظم قذائفهما وصواريخهما منشورة في نقاط الإطلاق المعهودة. كذلك بالنسبة إلى الجزء الأكبر من قواتهما التي تعتمد على الأبناء المحليين. على سبيل المثال كتائب الشجاعية أو جباليا تعتمدان على أبناء الأحياء من رتبة المقاتلين وحتى رتبة قادة الكتيبة. بهذه الطريقة يكون الانتقال من الحياة العادية إلى حالة الطوارىء سريعاً ويترك للاستخبارات العسكرية وقتاً تحذيرياً قصيراً.
تفرض فترة الإنذار القصيرة على إسرائيل تغييراً شاملاً لمبادىء عقيدتها الأمنية. وفعلاً أجرى رئيس الأركان أفيف كوخافي في خطته الجديدة، التي بلور فيها عقيدة عمل الجيش، تغييرات أيضاً على المقاربة التقليدية في وسائل الدفاع. منذ فترة رئيس الأركان السابق أيزنكوت وُظفت موارد لتحسين الدفاع، بينها إقامة جدار من الباطون في عمق الأرض حول قطاع غزة. إنجازات الجيش الإسرائيلي في الدفاع بمواجهة “حماس” في الجولة الأخيرة شكلت انعطافة يجب عدم الاستخفاف بها. تجدر الإشارة إلى إنجاز سلاح البحر في مجابهة وصدّ أي مبادرة هجومية من طرف القوة البحرية لـ”حماس”، وكذلك إنجاز سلاح الجو في إسقاط المسيّرات التي أطلقتها الحركة – بينها مسيّرات مزودة بمتفجرات أُطلقت في اتجاه منصات الغاز- تمار وإنجاز الدفاع على حدود القطاع الذي منع تسلل قوات كوماندوس تابعة لـ”حماس”. بالإضافة إلى جهود اعتراض الصواريخ الذي قامت به بطاريات القبة الحديدية التي تستحق التقدير، وهي تنضم إلى مجمل إنجازات الجهود الدفاعية.
على المستوى الأوسع، التهديد الذي تمثله “حماس” مع القوة النارية الصاروخية التي هاجمت مدن إسرائيل، يجب أن يشكل جرس إنذار إزاء إمكان انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية. دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 لن تكون مجردة من السلاح، ويمكن أن تشكل تهديداً أكبر بكثير من تهديد قطاع غزة. حجم الإنتاج الذاتي لوسائل القتال الذي طورته “حماس” والجهاد الإسلامي في غزة يشير إلى سخافة وهم نزع السلاح. معظم الإنتاج الذاتي للسلاح يجري بواسطة آلات تصنيع ومواد خام مدنية. لا توجد طريقة لتجريد دولة من مخارط ممكننة، ومن أنابيب الحديد والفوسفات. حقيقة أنه لا يوجد حتى الآن في المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين في الضفة إنتاج للصواريخ تعود إلى قدرات المراقبة والإحباط من خلال انتشار الجيش ووجود المستوطنات في عمق الضفة الغربية.
إن نجاح قيادة المنطقة الوسطى خلال هذه الجولة في كبح العنف وأعمال الاحتجاج الشعبي في مناطق الضفة الغربية يبرر مطالبة إسرائيل بالاستمرار في وجودها في المنطقة. إن فحص الموارد والجهود المطلوبة لضمان أمن منطقة الساحل الإسرائيلي بالاعتماد على نشاط الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية ودعم المستوطنات الإسرائيلية هناك، مقارنة بالموارد والجهود المطلوب من المؤسسة الأمنية توظيفها في قطاع غزة، يشير إلى أي حد الوضع القائم في الضفة الغربية هو أكثر نجاعة وأقل تكلفة.
الداعون إلى انفصال جديد عن الضفة واقتلاع مستوطنات والتراجع إلى خط جدار الفصل يعتمدون في موقفهم على فرضيتين أساسيتين:
الانسحاب إلى خطوط 1967 مع تعديلات طفيفة سيؤدي إلى إنهاء “الاحتلال”، وسيمنح إسرائيل شرعية وتأييداً دوليين للقيام بعملية عسكرية في حال تعرّض أمنها لخطر من مناطق الدولة الفلسطينية.
الجيش الإسرائيلي من خلال تفوقه الدائم يستطيع القضاء على أي تهديد أمني في وقت قصير وبثمن معقول.
حجم التهديد الذي تواجهه إسرائيل من قطاع غزة، والرأي العام المعادي لإسرائيل في دول الغرب (بعد الانفصال الأحادي الجانب من غزة في سنة 2005 تعهد المجتمع الدولي بدعم أي رد عسكري إسرائيلي على هجمات من القطاع) يطرحان شكوكاً كبيرة في مدى صحة هذين الافتراضين.
أيضاً تأييد الرئيس الأميركي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ليس أمراً بديهياً ويمكن التقدير أن الدعم الذي تلقاه رئيس الحكومة نتنياهو خلال الأيام العشرة للقتال سيكون له ثمن. الإدارة الأميركية الملتزمة بالدفع قدماً بحل الدولتين أدركت جيداً أن عدم دعم إسرائيل خلال تعرّضها للهجوم من غزة سيجعل من الصعب عليها مطالبة إسرائيل مستقبلاً بالانسحاب من الضفة الغربية.
تشير أحداث الأسابيع الأخيرة التي أظهرت حدود قوة الجيش الإسرائيلي في حال نشوب حرب متعددة الجبهات (بما فيها الجبهة الداخلية) إلى الخطر الوجودي الذي تنطوي عليه انسحابات إضافية. ومع كل التفوق العملاني للجيش الإسرائيلي فإذا طُلب منه القتال في وقت واحد في الساحة الشمالية لن يقدر على الدفاع عن الساحل الممتد من حدود نتانيا حتى كفر سابا.