المودعون اللبنانيون ومستجدات أزمتهم: أفعى برؤوس كثيرة
علي نور الدين – صحافي لبناني
مصرف لبنان، يستمر في سياسة العمل وفق التعاميم والبيانات المتفرّقة، التي تأتي بمعظمها على شكل قرارات غامضة لا توضح مغزاها وكيفيّة تكاملها ضمن إطار خطة متناسقة. ولذلك، سيكون على المودعين في كل مرّة أن يصلوا أجزاء هذه التعاميم وكأنها أحجية ملغومة.
نجحت المستجدات المتعلّقة بقرار مجلس شورى الدولة، والتي قضت بوقف السحوبات من المصارف وفقاً لبنود التعميم 151، في إشاحة النظر عن الصورة الأكبر للتطورات المرتبطة بأزمة المودعين العالقة أموالهم في المصارف اللبنانية.
قرار المجلس لا يشكّل سوى جزء صغير جداً في خارطة أوسع من الأحداث التي تسارعت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وإن اتصلت هذه الأحداث ببعضها. فقرار مجلس الشورى، الذي تم التراجع عن تنفيذه بعد أقل من 24 ساعة، لا يزال تفصيلاً أمام المعارك التي دارت رحاها بعيداً من أعين وسائل الإعلام، في المجلس المركزي لمصرف لبنان، وفي لجنة المال والموازنة، والتي تتصل جميعها بملف توزيع خسائر النظام المصرفي ومستقبل الودائع فيه. هناك، تلعب المصارف آخر أوراقها في مواجهة أي احتمال يمكن أن يمس مصالحها ورساميلها، ولو كان ذلك في سبيل استعادة المودع جزءاً إضافياً من حقوقه في النظام المصرفي.
الضغط على المجلس المركزي
يتشكّل المجلس المركزي لمصرف لبنان من الحاكم ونوابه الأربعة، إضافة إلى مديري وزارتي الماليّة والاقتصاد العامّين. هذا المجلس الذي كان يفترض أن يحدد بحسب قانون النقد والتسليف السياسة الماليّة والنقديّة للبلاد، وأن يتذاكر في كل ما يخص بالتدابير التنظيميّة للقطاع المصرفي، تم تغييب دوره عن قصد منذ التسعينات، لمصلحة حاكم المصرف المركزي الذي تحكّم منفرداً بمفاصل الأمور، من دون أن يستشير هذا المجلس أو يشاركه صنع القرار، باستثناء التصديق على إجراءات الحاكم حين يلزم الأمر فقط. لكن منذ حصول الانهيار المالي، واشتداد الضغوط الداخليّة والخارجيّة على سلامة، وجد الحاكم نفسه مضطراً للعودة إلى مناقشة السياسات النقديّة والماليّة ضمن المجلس المركزي، للحصول على الغطاء اللازم قبل اتخاذ القرار، خصوصاً أن حصول بعض القوى الطائفيّة على تمثيل مباشر في المجلس يوفّر حصانة سياسيّة أقوى لأي قرارات يمكن أن يتخذها.
اجتماع المجلس يوم الأربعاء الماضي، كان يفترض أن يبت بمسألة الخطة المفترض اعتمادها لسداد جزء من الودائع المصرفيّة بشكل تدريجي خلال الفترة المقبلة. مع العلم أن هذه الخطّة هي تحديداً ما أشار إليه حاكم مصرف لبنان من منبر بعبدا بعد الاجتماع المالي، في معرض نفيه إفلاس المصارف. الخطة التي عُرضت أمام المجلس المركزي تقوم على مبدأ تقسيط نحو 50 ألف دولار لصاحب كل حساب مصرفي، خلال فترة زمنيّة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، على أن يتم سداد نصف هذه القيمة بالدولار النقدي، فيما يتم سداد النصف الآخر بالليرة وبحسب سعر الصرف الرسمي.
المصارف مارست ضغوطاً وصلت إلى حد التلويح بالامتناع عن تنفيذ القرار حتّى في حال إصداره على شكل تعميم صادر عن الحاكم. أما السبب، فهو رفض المصارف دفع أي جزء وازن من قيمة السحوبات النقديّة بالدولار، متحججة بعدم امتلاكها السيولة النقديّة الكافية في حساباتها في الخارج. والبديل بالنسبة إلى المصارف، ليس سوى الاعتماد حصراً على ما تبقى من سيولة في مصرف لبنان لتمويل هذه العمليّة.
علماً أن الأرقام التي قدمتها المصارف للمجلس تشير إلى أن أربعة مصارف فقط سيتوجّب عليها ما يقارب 2.7 مليار دولار من الالتزامات التي ينبغي دفعها للمودعين خلال فترة تقسيط المبالغ، في حال السير بالخطة المطروحة، فيما لم تتمكّن بقية المصارف من تقديم كامل الأرقام التفصيليّة لحجم السحوبات النقديّة المتوقعة بالدولار. أما أهم ما في الموضوع، فهو ما تشير إليه مصادر مصرفيّة مطلعة، من أن المصارف عمدت إلى عرقلة صياغة الخطة بالصيغة التي كانت مطروحة، من خلال تقديمها أرقاماً متضاربة في مراحل مختلفة من المباحثات، أو من خلال تضخيم بعض الأرقام عن عمد لتخفيض حجم السحوبات التي يمكن أن يتضمنها المشروع بأسره، قبل أن تحجم عن إعطاء رقم إجمالي دقيق.
بعد يوم واحد من الاجتماع الذي لم يفضي إلى أي قرار، صعّدت المصارف ضغوطها على المجلس المركزي، من خلال رسالة وجهتها جمعيّة المصارف يوم أمس الخميس إلى الحاكم، أبلغته فيها أنها غير قادرة على تقديم أي مبالغ من حساباتها في الخارج لتوفير السحوبات التي يتم التداول بها. كما أعلنت الرسالة بكل صراحة أن الطريقة الوحيدة لتمويل هذه السحوبات هي تخفيض سقوف الاحتياطي الالزامي الذي يفرضه مصرف لبنان على المصارف، لتمويل السحوبات من هذه الاحتياطات.
قرار المجلس المركزي الأخير
أنصاع المجلس المركزي لمصرف لبنان لضغوط الجمعيّة. فالمجلس أصدر اليوم قراراً بالمصادقة على خطّة تقوم بدفع 400 دولار أميركي شهريّاً بالدولار النقدي للمودعين، مقابل مبلغ مماثل بالليرة اللبنانيّة وفق سعر منصة التداول بالعملات الأجنبيّة. لكن المجلس وبعكس جميع مفاوضاته السابقة للمصارف، قرر أن يتم دفع كامل المبلغ من الاحتياطات الإلزاميّة الموجودة في مصرف لبنان، دون أن تتحمّل المصارف أي نسبة من السحوبات من موجوداتها الخارجيّة. وهكذا، وبحسب هذا القرار، يكون مصرف لبنان كان باشر بتبديد آخر الاحتياطات المتبقية لديه، في سبيل تمويل خطة لن تفضي في النهاية إلا إلى سداد نسبة ضئيلة جداً من قيمة الودائع الموجودة في المصارف.
المراوحة في “لجنة المال والموازنة”
كما بات معلوماً، كان من يفترض إقرار قانون “الكابيتال كونترول” منذ بداية الأزمة، للحؤول دون تهريب ودائع النظام المصرفي إلى الخارج. لكنّ تعمّد تعطيل عمليّة إقرار القانون أدّت إلى ما شهدناه من استنزاف لأموال المصارف في الخارج، ولاحتياطات مصرف لبنان لمصلحة قلة نافذة من المودعين. منذ فترة، عادت “لجنة المال والموازنة” إلى مناقشة مشروع القانون، لإقرار صيغة دفع للمودعين، يمكن أن تحل مكان آليات الدفع الحاليّة بالليرة اللبنانيّة. علماً أن مشروع القانون يتناول أيضاً عمليّة توزيع السحوبات ما بين دفعات الدولار النقدي والليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر المنصّة. ومنذ البداية، دخلت الضغوط لتخفيض ما يمكن أن يضمنه القانون من حقوق للمودع، عبر إبقاء مفاتيح السقوف الأخيرة بيد مصرف لبنان، وعدم تضمينه ضوابط واضحة تضمن الحد الأدنى من الضمانات لعملاء المصارف.
وقد عقدت “لجنة المال والموازنة” اجتماعها الذي كان يفترض أن ينتج صورة متكاملة لمشروع القانون، من دون أن تتمكن من ذلك. فالمصارف عمدت منذ البداية إلى بعثرة أوراق اللجنة، بأسلوب شبيه بعمليّة عرقلة خطة مصرف لبنان، من خلال تزويدها بمعطيات متضاربة وغير منسجمة، لا بل وبتزويدها في أحيان كثيرة بأرقام لا تملك الحد الأدنى من الصدقية. ولذلك باتت مهمّة صياغة سقوف السحب مسألة متعذّرة، خصوصاً كون عمليّة تحديد سقوف السحب تعتمد بالدرجة الأولى على هذه التقديرات. مع العلم أن لجنة الرقابة على المصارف نفسها، رفضت المصادقة على أي من الأرقام التي قدمتها المصارف للجنة، لعدم وجود منهجيّة ذات صدقيّة في تحديد هذه الأرقام. أما مصرف لبنان، فمارس سياسة الغموض نفسها تجاه اللجنة، من خلال امتناعه عن تقديم الغالبيّة الساحقة من الأرقام التي طلبتها، وهو ما جعل مهمّة دراسة الوضعيّة الماليّة للمصارف مسألة شبه مستحيلة.
الحقوق الضائعة
لم يكن متاحاً أن تحقق خطة مصرف لبنان أكثر من دفع جزء صغير من الودائع بالدولار النقدي، كما لم يكن قانون “الكابيتال كونترول” قادراً على ضمان أكثر من بعض الوضوح في مستقبل الودائع في النظام المصرفي للسنوات القليلة المقبلة.
لكن عمليّة العرقلة المتعمّدة التي حصلت على الجبهتين، ستحرم المودع حتّى من هذا الجزء اليسير من حقوقه، وستتركه أسير السحوبات وفق الآليات الحاليّة. فالمصارف غير مهتمّة فعلاً بالارتباط بآليات سحب تضمن للمودع سداد دفعات ثابتة بالدولار النقدي، وفق أي صيغة من الصيغ، خصوصاً كون هذه العمليّة ستكلّفها استنزاف بعض السيولة النقديّة من موجوداتها. في حين أن عمليّة سداد الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، لا تحمّل المصارف أي كلفة، بل تترك هذا العبء لعمليّة طبع النقد في المصرف المركزي. أما هدف المصارف الأخير، فهو الاستمرار بدفع قيمة الودائع، وفق الصيغة الحاليّة، أي بالليرة وبسعر صرف يتم تحديده بشكل اعتباطي ومن دون أي معيار واضح.
أما مصرف لبنان، فيستمر بسياسة العمل وفق التعاميم والبيانات المتفرّقة، التي تأتي بمعظمها على شكل قرارات غامضة لا توضح مغزاها وكيفيّة تكاملها ضمن إطار خطة متناسقة. ولذلك، سيكون على المودعين في كل مرّة أن يصلوا أجزاء هذه التعاميم وكأنها أحجية ملغومة، ليفهموا أهداف الحاكم الفعليّة. ولعلّ إحدى هذه الأحجيات، تكمن في تصريح الحاكم الأخير من بعبدا الذي أكّد فيه الوضع المالي في مصرف لبنان وعدم إفلاس المصارف، من دون أن يشرح رؤيته لكيفيّة خروج النظام المصرفي من حالة التعثّر، وكيفيّة استعادته القدرة على سداد الودائع.